تاريـخ جـهـينة
بقلم : فيصل صالح الخيري
رئيس مركز التراث الفلسطيني
الحلقة الأولي : جهينه قبيلة الصحابة :
لقبيلتنا - جهينه - تاريخ شجي، قل أن تجد مثله بين التواريخ .. فبشهادة النسابين والمؤرخين .. إن جهينه قبيلة عربية من أعظم القبائل عددًا .. وأعلاها شأنًا، وأمنعها جانبًا، قبل الإسلام وبعده .. وكان لها شرف السبق إلي الإسلام .. ومساهمتها في الدفاع عنه، وقد صحب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) من رجالها ما يزيد علي المائة والسعبين صحابيًا أسهموا بدور بارز في الفتوح الإسلامية وإدارة الأمصار .. ومنهم كانت نواة أول جهاز استخبارات عسكرية في الإسلام، وكان لأبنائها دور عام في تعريب السودان ونشر الإسلام في دول الجوار، ومشاركتهم في اقامة الممالك العربية، وقد توارث أبناء القبيلة هذه المزايا كابر عن كابر .. طوال الحقبات التاريخية الإسلامية حتي عصرنا الحاضر.
الجذور حسب آراء النسابة والمؤرخين وعلماء الآثار ..
جهينه بضم الجيم وفتح الهاء وسكون الياء وفتح النون وهاء في الآخر، والنسبة إليها «جهني» بحذف الياء والهاء .. وتنسب كما تذكر المصادر العربية إلي: جهينه بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن زهرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .. ويتمسك معظم أبناء جهينه بهذا النسب .. وعليه بنيت عصبيتهم ومفاخراتهم.
وسبأ كما يذكر «خير الدين الزركلي» في كتابه «الإعلام»، والدكتور جواد علي في كتابه «المفضل في تاريخ العرب قبل الإسلام»، و«الدكتور فاضل الربيعي في كتابه «شقيقات قريش» من كبار ملوك اليمن في الجاهلية الأولي، وإليه نسب نسله السبئيون، وقد زعموا أن اسمه الحقيقي هو «عبد شمس» وأما سبأ فلقب لقب به، لأنه أول من سبأ «أي سن السبي» من ملوك العرب وأدخل اليمن السبايا .. وذكر بعضهم أنه بني مدينة سبأ وسد مأرب.. وغزا الأقطار مثل بابل ففتحها وأخذ أتاوتها، وبني مدينة «عين شمس» باقليم مصر .. وقالوا أشياء أخري من هذا القبيل: وقد نشرت صورة كتابة، وردت كلمة «أرض سبأ» في نص سومري، ونص آخر يرجع إلي أحد ملوك «أور» ويرجع بتاريخه إلي حوالي 2500ق.م.
وحمير في عرف النسابين هو الابن الأكبر لسبأ، فلعل هذا الكبر هو الذي شفع له ان يكون الوارث لليمن، والحاكم علي قبائل قحطان وعدنان فيها، وقد ملك حمير بعد أبيه علي حد قولهم أكثر من مائة عام، وقد ورد اسم حمير عند «بطليموس» 121 ـ 151م، في مواضع عدة منها أحاديثه عن معد «معدو» التي كان يحكمها «مكرب» دعاه بشيخ «أبو كرب» .. كما ذكرها المؤرخ الروماني «بروكوبيوس» القيساري، وسماها حمير .. ولنضف مثلاً آخر يقدمه الدكتور عبدالعزيز صالح في كتابه «تاريخ شبه الحزيرة العربية في عصورها القديمة ـ إذ يقدم سلسلة من الأدلة من النصوص الآشورية التي ذكرت السبئيين وحكامهم في ثلاث مناسبات، فذكر نص للملك الآشوري «تيجلات بلاسر الثالث» في عام 738ق.م، انه تلقي جزي السبئيين من الذهب والإبل والتوابل، وأكد نص للملك «سرجون الثاني» لفي عام 714ق.م انه تلقي من «تي آمر» السبئي جزي من الذهب والأحجار الكريمة والتوابل والخيول .. ثم ذكر نص لولد ه الملك الآشوري «سنحريب» في عام 685 ق.م، انه حين احتفل بوضع حجر أساس مجد «أكيتو» استقبل مندوب عن الحاكم السبئي حمل إليه جزاه من المعادن الثمينة والأحجار الكريمة والطيوب.
ونعود ثانية إلي «حمير» الذي أنجب جملة من الأبناء .. كانوا هم أجداد قبائل حمير، وأشهرها «قضاعة» التي يرجع نسبها إلي قضاعة بن مالك بن عمرو بن زهرة بن مالك بن حمير .. ويذكر فضل عبدالله الجثام في كتابه «الحضور اليماني في تاريخ الشرق الأدني» ـ نقلا عن الهمداني: أن قبر قضاعة اكتشف في اليمن زمن الملك «عمرو ذي الأذعار الحميري» وفيه عمود مكتوب عليه بالمسند علي باب مغارة «هذا قبر قضاعة بن مالك بن حمير .. ملك ثلاثمائة عام ومات .. أدخل واعتبر، واخرج وازدحر» وفي داخل المغارة وجد فوق القبر لوح من الذهب مكتوب عليه بالمسند: «أنا قضاعة بن مالك بن حمير» وكانت أشهر بطون قضاعة: بلي وكلب وبهراء وبنو نهد وسعد هزيم وبنو مرة وتنوخه وجهينه، ويذكر أن محمد مرتضي الزبيدي في كتابه «تاج العروس» أن جهينه بالضم قبيلة من قضاعة، والجهنه بالضم جهمة الليل، وجارية جهانه بالضم أي شابه، وفي الجمهورة الجهن غلظ الوجه والجسم، وبه سمي جهينه.
ديار جهينه الأولى :كان الموطن الأصلي للشعب القحطاني بلاد اليمن، في الركن الجنوبي من جزيرة العرب، ولذلك عرفوا باسم عرب الجنوب، وكان قضاعة جد القضاعيين الأكبر علي رواية أهل الأخبار، مثل سائر أبناء سبأ مقيمًا في اليمن أرض آبائه وأجداده، والدكتور عبدالعزيز صالح قد أسهم بقسط وافر في هذا الموضوع، وله آراء تمتاز بالاحاطة والشمول .. منها رأي زكاة عدد من الباحثين مثل «شرادر وكبيرت وهارتمان ودلتش وفريتزهومل» ورأوا أن السبئيين عاشوا أصلا في شمال شبه الجزيرة العربية قرب منطقة الجوف الشمال، واستمروا فيها علي البداوة زمنًا طويلاً، ثم دفعتهم دوافع معينة إلي الاتجاه نحو جنوب شبه الجزيرة قبيل بداية القرن الثامن ق.م، بقليل حيث استقروا فيه، أما الرزي الآخر فقد ألمح إليه باحثون آخرون ونهم «موللر وجلاسر وفنكلر ومايروموزيل» ويرون فيه ان السبئيين عاشوا منذ بداية أمرهم في الجنوب العربي، ولكن جالية منهم اتجهت خلال القرن الثامن ق.م، أو قبله بقليل إلي الشمال، وأقامت قرب واحة «تيماء» ومنطقة «الحوف الشمالي» لترعي المصالح التجارية لقومها في شمال شبه الجزيرة وعلي طرق القوافل المتهجة منها إلي الهلال الخصيب.
وعلي أية حال، يذكر الدكتور محمود عرفة محمود في كتابه «العرب قبل الإسلام» أن سبأ كانت أرضًا خصبة من أغني أراضي اليمن وأثراها وأكثرها جنانًا وأفسحها مروجًا، وبها الأنهار والأزهار، وقد وصفت جنانها بأن الراكب والمار كانا يسيران في تلك البلاد من أولها إلي آخرها، لا تواجهه شمس لاستئثار أرضها بالعمارة الشجرية، وكان أهلها في عيش طيب ورغد كثير، فقد كانت المياه هي أكثر ما يرد إلي أرض سبأ، وأهم المنتجات الشعير والقمح والذرة، فكانت هذه البلاد مخزنًا عظيمًا للغلال.
فضلاً عن النخيل الذي كان يروي من ماء السيول، وأنواع الفاكهة المتنوعة .. والقرآن الكريم يصف تلك المنطقة بتلك الآية الكريمة: «لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وعن شمال، كلوا من رزق ربكم واشكروا له، بلدة طيبة ورب غفور».
ولم يكن لقضاغة أن يترك تلك الجنة، لولا أن مشاجرة نشبت بينه وبين وائل بن حمير فآثر الهجرة إلي «الشحر» وهي بلاد بين اليمن وعمان .. وأقام في هذه الأرض مع أبنائه وصار ملكًا عليها إلي أن توفي فيها، فقبره هناك، وصار الملك لابنه الحاف «الحافي» وهو في زغم الاخباريين والد ثلاثة أولاد: عمرو وعمران وأسلم، ومن نسل هؤلاء تفرعت قبائل قضاعة، فمن نسل أسلم: جهينه وسعد هزيم ونهد.
الهجرة إلي نجد والحجاز :
يذكر البكري في كتابه «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواقع» ان نزار بن معد اجتمعت علي قضاعة فاقتتلوا، فقهرت قضاعة وأجلوا عن منازلهم وظعنوا منجدين «زي إلي نجد'» وكان أول من طلع من قضاعة إلي أرض نجد فأصحر في صحرائها جهينه ونهد وسعد هزيم، فأقاموا بها زمانًا حتي كثروا، ويذكر الدكتور محمد علي مختار في كتابه «دراسات في تاريخ العرب» ان مما قيل عن القبائل اليمنية، حين كانت تخرج من اليمن متجهة إلي نجد والحجاز مثلا، انها كانت تخرج ومعها ملوكها، فنحن نري منذ البداية قبائل اليمن ليست كقبائل عرب الشمال مجرد «بدو» بل هي حتي حين قدر لها أن تترك أرضها باليمن، تخرج ومعا شيء من حضارة تلك البلاد وتقاليدها، مما كان له حتمًا أثر في عرب الشمال أو العدنانية وفي نشر نفوذ اليمن الحضاري، وهذا النسق من الأفكار يشبه عن قرب ما ذكره الدكتور عبدالعزيز صالح في سياق ما أوردناه عن ديار جهينه الأولي .. أما نجد فهي هضبة عالية تقع وسط جزيرة العرب بين الحجاز غربا والاحساء والبحرين وقطر شرقًا .. وصحراء الشام شمالا، وصحراء الاحقاف والدهناء جنوبا .. وتبلغ مساحتها أكثر من عشرة آلاف ميل مربع، وتتكون من سلسلة هضاب تحيط بها مناطق واقعة في سفوح جبل شمر شمالا وجبل طيق جنوبا وجبال الحجاز غربا، وعلي الرغم من كونها هضبة صخرية فإن فيها كثيرا من البقاع الخصبة التي تنتج الحبوب كالقمح والشعير والذرة .. وفي هذه الهضبة بعض الأودية ومسايل المياه .. وكثير من التلال التي تعلو الأرض ببضع عشرات من الأمتار .. وأعلي بقاعها هي منطقة نجد الغربية المحاذية للحجاز.
وجاء في أقوال بعض الاخباريين ومنهم البكري إن جهينه اقامت بصحاري نجد وقتًا من الزمن إلي أن نشب الخلاف بين بعض بطونها، أو بينها وبين بعض بطون قضاعة .. ولا نعرف من أخباره إلا الندر اليسير، واضطرت جهينه إلي الانتقال شرقا في الأودية والجبال، ولا نستطيع أن نحدد المدة التي مكثتها جهينه في تلك المنطقة، ولا نكاد نعرف من أخبارها شيئًا، عدا سبب رحيلها إلي الساحل الغربي وأوديته بالحجاز، وهو أن قتالاً نشب هناك حين وثب «خزيمة بن نهد» وكان شرسًا مشؤوما جبارًا علي «الحارث وعرابة» ابني «سعد بن زيد» فقتلهما، وعلي إثر تلك الحادثة رحلت جهينه إلي الحجاز وسكنت مساكنها التي ماتزال فيها، وكان يسكنها حين انتقال جهينه إليها بقايا من قبيلة «جذام» فأجلتها جهينه ونزلت تلك البلاد، وينقل البكري عن ابن الكلبي قوله: «وتلاحقت قبائلهم وفضائلهم، فأصبحت نحوًا من عشرة بطون، وتفرقت جهينه في تلك البلاد وهي الأشعر والأجرد «جبلان بين المدينة والشام» وقدس وآراه «أحد جبال تهامة» ورضوي الذي يقول عنه الدكتور عبدالوهاب عزام انه جبل بين المدينة وينبع، وهو جبل منيف ذو شعاب وأودية، وفي شعابه مياها كثيرة وأشجار، وقد ضربت العرب رضوي مثلا للعزة والرسوخ، وصندد .. وانتشروا في أوديتها وشعابهاوأعراضها، وفيها النخيل والزيتون والبان والياسمين والعسل وأنواع الأشجار الأخري، وأسهلوا في بطن وادي «أضم» أعظم أودية الحجاز الذي يسيل من حرة «خيبر» جنوبها الشرقي، ويسير نحو الجنوب الغربي حتي يقارب المدينة، ثم يدور صوب الشمال والغرب .. ثم يستقيم مغربا حتي ينضب في البحر الأحمر، ويسمي الآن وادي الحمص، مضافا إلي ذلك ذو خشب وتتيد والحاضرةوتعقباء والمصلي وبدر وودان وينبح والحوراء، وربما هذه ميناء قديم بالقرب من ميناء ينبح، وموضتعه أقرب إلي ميناء أملج، ووادي فوي ويحال ولظي «في جهة خيبر» وأديم «أرض بين تهامة واليمن» وبواط «قرب ينبح » والحصير والصفراء، وهو واد كثير المخل الزرع والخير في طريق الحاج، سلكه الرسول غير مرة، وبينه وبين بدر مرحلة وهو فوق ينبح مما يلي المدينة، وماؤه يجري إلي ينبح، كما نزلوا ما قبل الروحاء والرويثة، ثم استطالوا علي الساحل وامتدوا في التهائم وغيرها حتي لقوا قبيلة بلي وجذام بناحية حقل من ساحل تيمياء، وماتزال جهينه في تلك البلاد حتي بزوغ فجر الإسلام وهجرة الرسول إلي المدينة.
حياة جهينه الدينية :
حفلت شبه جزيرة العرب في الفترة الأخيرة من عصر ما قبل الإسلام بالعديد من العقائد والملل السماوية منها وغير السماوية، لتصب في عقل الجاهلية الجماعي، قادمة من أطراف شبه الجزيرة مع التجار والمهاجرين، فمن العراق أتت الصابئة مع أتباعها من عباد الكواكب والملائكة، الزاعمين انهم علي دين نوح من درب حفيده «صابئ بن شيت» ومع المبشرين والهاربين جاءت المسيحية بفروعها المختلفة من يعقوبية ونسطورية وديصانية، فدانت بدينها طائفة ومنهم قضاعة، أما اليهودية فليس في أيدينا ما يفيد أن أحدًا من جهينه قد تأثر بها.
أما عبادة الاصنام التي انتشرت حول الكعبة، فتعود إلي أحد أحفاد إسماعيل بن ابراهيم وهو «عمرو بن لحي الخزاعي» الذي أتي بعد رحلة من الشام بصنم من العقيق الأحمر يدعي «هبل» وأخذ يعلم الناس ان صنمه هذا شفيع من الله، وسارت القبائل بعد ذلك علي سيرته، فكانت كل منها تنحت للآلهة الصورة التي تراها لتضعها في فناء الكعبة، وبالنتيجة تأثر أهل الجزيرة بهذا التعدد الديني، إلا أن الوثنية كانت عامة في بلاد العرب، فقد تطورت عبادة قوي الطبيعة عند العرب قبل الإسلام وصارت عبادة الاصنام تمثلها، فبعد ان اتخذوها صورًا ورموزًا للقوي الخفية التي تؤثر في حياتهم، عبدوها علي صورتها المادية، وبعد مضي زمن طويل تحولت فيه الرموز إلي صور تعبد من دون الله، وصار الأساس في اعتقادهم أن الله قد جعل من أوليائهم آلهة، ومنحهم فيضًا من قدراته علي شفاء الناس، والتوفيق في الزواج والذرية الصالحة، وإبعاد الشر وجلب السعادة .. وهي مالا يمكن ان يناله الإنسان إلا بإرضاء الآلهة التي يعبدونها وتقديم القرابين لهم، حتي تقربهم إلي الله زلفي.
ويؤثر عن أسلاف جهينه، أنهم عبدوا الإله «ود» وقد وجد في النصوص كتابات مثل: «أموت علي دين ود» وأيضًا «يا إلهي ود احفظ لي ديني وأيده» وكان الاسم «ود» من أسماء الاصنام التي أوردها القرآن الكريم ـ وذهب البعض ومنهم الدكتور شوفي عبدالحكيم في كتابه «أساطير وفولكلور العالم العربي» استنادًا إلي لفظة «ود» العربية التي مازالت متواترة بمعني «المودة أو التودد» إلي أن هذا المعبود الذي هو القمر، يعني الود والتحية .. كما ورد صراحة في أشعار النابغة الزبياني: «حياك ود» ولنا أن نقول كذلك إن الإله ود هو الإله «المقة» ومن هذا الاسم جاءت تسمية مكة.
ينبغي أن نضيف إلي ما سبق، انه قد عرف بالتحديد في ممالك سبأ، وكذلك عرف بنفس اسمه لسومري في الألف الرابع ق.م «سين» عند الحضرموتيين، وكان هذا الإله القمري «سين» ابن الإلهة «عشترت» في كتابات المسند الحضرموتية وكان تمثالا لفارس محارب.
وهذا النسق يشبه عن قرب ما أورده الدكتور عبدالعزيز صالح من أنه أنشأ معبد العاصمة السبئية «صراوح» الكبير لمعبود دولتها الأكبر الذي أطلق عليه اسم «المقة» ربما الإلة المقتدر أو الآمر أو الإله لبهي أو الجميل، وتأكيدًا لقداسة أصلهم تلقب حكام سبأ بلقب «ولد المقة» أي أبناؤه، وخص السبئيون معبودهم الأكبر هذا بربوبية القمر واعتبروه «سيد وعول صرواح» بما يعني تعدد المعبودات فيها إلي جانبه ورئاسته لهم، وقدسوا معه في معبد العاصمة ربة باسم «حريمت» ربما كزوجة له، وهي ترمز في أغلب الظن إلي ربوبية الشمس، وهكذا توفرت للقمر عندهم وعند بقية عرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام منزلة أكبر من منزلة الشمس، علي عكس شعوب الهلال الخصيب الزراعية، ربما لانتفاع أهل شبه الجزيرة بالقمر في مسري القوافل وتوقيت الهور، مع شدة هجير الشمس وقسوتها لاسيما في البيئات الصحراوية.
ويقول «الكبي» في كتابه «الأصنام» عن المقة أو «ود»: «تمثلا كأعظم ما يكون من الرجال، عليه نقش وحلتان متزر بواحدة ومرتد بأخري، عليه سيف، قد تنكب قوسًا، وبين يديه حربة بها لواء وجعبة فيها نبل، وقد بقي «ود» قائمًا في مكانه إلي أن بعث رسول الله «خالد بن الوليد» إلي دومة الجندل، فهدم الصنم وكسره.
أما «نسر» حسب ما ذكره الدكتور محمود عرفة محمود فقد كان موضعه بلخع من أرض سبأ، وكان علي هيئة الطائر المسمي باسمه، ولم تقتصر عبادته علي العرب الجنوبيين، بل انتشرت عبدته في شمال الجزيرة العربية، فقد وجدت تماثيل علي صورة نسر منحوتة علي الصخور خاصة في أعالي الحجاز.
كما عبدت بعض قبائل قضاعة الإلهة «مناه» ويذكر «الكلبي» أن صنمها كان منصوبًا علي ساحل البحر الأحمر، وبين مكة والمدينة، كما كان معبودًا لقبائل «الأوس والخزرج» من أهل يثرب «المدينة»، ويضيف أن العرب كانوا يعظمون الإلهة مناه ويذبحون لصنمها، كما أنهم تسموا باسمه .. و«العبعب» هو صنم كان لقضاعة ومن داناهم، وعبدت قضاعة «الأقيصر» وكانوا يحجون إليه ويحلقون رؤوسهم عنده، وورد ذكره في كثير من أشعارهم، ولقد كانت جهينه جزءًا من مجمع الحجاز، لذلك ارتبطت بما ارتبط به العرب في شبه الجزيرة، فكانت تشارك في حج البيت الحرام في الكعبة، وتساهم في حماية الأشهر الحرم، وقال «اليعقوبي» كانت تلبية قضاعة في الجاهلية إذا حجت: «لبيك عن قضاعة، لربها دفاعه، سمعًا له وطاعة».
وينبثق عن هذا الموضوع ويتفرع عنه، ما يعرف عند العرب بالكهانة، التي اشتهر بها العرب جميعًا قبل الإسلام، وقد كان للكهان علي ما يتبين من قصص الاخباريين، أثر كبير في حياة العرب قبل الاسلام، واشتهرت بها جهينه علي وجه الخصوص، بدليل الآية الكريمة التي نزلت في حق يهودي اختصم مع مسلم، فكان المسلم أو المنافق يريد الاحتكام لي الكاهن، وكان اليهودي يدعو إلي النبي أو المسلمين، لاتهم لا يقبلون الرشوة، فاصطلحا أن يتحاكما إلي كاهن من جهينه، فنزل الوحي بتوبيخ ذلك المنافق، وقد أشار بعض الاخباريين إلي كاهن ظهر في جهينه عرب بحارثة جهينه .. كان من أكهن العرب وأسجعهم.
وتبين مما يرويه الاخباريون انه كان هناك طائفة من العرب أحجمت عن الوثنية والصابئة والمجوسية وغيرها من الديانات غير السماوية التي انتشرت في بلاد العرب، واتخذت من عقيدة ابراهيم الخليلي دينًا لها، وهو الدين الذي يدعو إلي عبادة الله الواحد الأحد، وقد عرف هؤلاء بالأحناف لقوله تعالي: «حنفاء لله غير مشركين به» وهم الذين تجنبوا الناس، وطاف بعضهم في الأرض بحثًا عن دين ابراهيم الحنيف، وكانوا يقضون أيامهم ولياليهم في تأمل الكون الذي يعيشون فيه، وقد تجنبوا فعل المنكرات، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ولا يحضرون الذمة ولا يظلمون فيها.
وهناك إشارات تحملها النصوص والروايات العربية إلي انتشار الحنفية بين أبناء جهينه، ويذكر محمود شكري الألوسي في كتابه «بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب» ان ممن اشتهر منهم عمير بن جندب الجهني .. وكان هذا الرجل ممن يوحد الله تعالي في الزمن الجاهلي ولا يشرك بربه أحد، .. وله قصة عجيبة ذكرها صاحب القاموس فقال: «روينا عن إسماعيل بن أبي خالد قال: مات عمير بن جندب من جهينه قبيل الإسلام فجهزوه بجهازه، إذا كشف القناع عن رأسه فقال أين الفصل «أحد بن عمه» قالوا سبحان الله مر آنفًا فما حاجتك إليه، فقال أتيت فقيل لي لأمك الهبل، ألا تري حفرت تنتشل، وقد كادت أمك تثكل .. أرأيت ان حولناك إلي محول، ثم غيب في حفرتك الفصل، الذي مشي فاحزأل، ثم ملأناها من الجندل، أتعبد ربك وتصل وتترك سبيل من أشرك وأضل، فقلت نعم .. قال فأفاق ونكح النساء وولد له أولاد، ولبث الفصل ثلاثًا ثم مات ودفن في قبر عمير» .. وتبقي معلوماتنا التاريخية الموثقة عن هذا الموضوع قليلة ومبعثرة، وما توفر لدينا من شذرات عنه، يستفاد منها أن عميرًآ الجهني كان موحدًا، ولم يشرك بربه أحدًا، وكان شعلة من الحماس الديني المعادي للوثنية، وقد اعتزل الوثنية وحرم الميتة والدم والذبائح علي الأوثان، ونهي عن دفن البنات وهن أحياء .. وهكذا كان هذا الحنيف الجهني مثال رجل الدين والفكر المناضل بين ظلمات الجاهلية الوثنية، وقد مات قبل الإسلام، وكان المسلمون يفتخرون باطلاق الحنيفية عليهم، ويرون أن الحنفاء هم سلف المسلمين، وأن إبراهيم كان حنيفًا، وكان أول المسلمين.
حياة جهينه الاجتماعية :
أما حياة جهينه الاجتماعية .. فقد طبعت بالسمات ذاتها التي طبعت بها القبائل العربية الأخري، وأبرز هذه السمات هي روح العصبية القبلية، والعادات والتقاليد المتبعة عند القبائل الأخري، لذا اتسمت العادات التأثرية عندهم بالعنف، فالدم لا يغسله إلا الدم، فأصبح الشرف معلقًا بالثأر إلا إذا قبل أهله الدية، وعلي الرغم من الوحدة الظاهرية للقبيلة في صلاتها الاجتماعية فيما بينها وبين القبائل الأخري، فقد كانت هناك تناقضات في الكيان الاجتماعي للقبيلة، ومن هذه التناقضات التقارب الاجتماعي بين أفراد الطبقة الواحدة من أجل الحصول علي مركز القيادة أو الزعامة التي سوف تمنح أصحابها الحقوق والامتيازات، وتفرض مطالبه، علي الأخري، وذلك يعود إلي حياة جهينه الاقتصادية، التي لعبت دورًا مهمًا في رفع مستوي أفرادها المعيشي، لا سيما أن هذه العادة ظهرت نتيحة الفقر المدقع الذي استمت به حياة تلك القبائل التي مارست هذه العادة اللاإنسانية.
هذا من ناحية .. ومن الناحية الأخري، فقد كان الحكم والشاعر والكاهن، من الشخصيات المؤثرة في مجتمع الحجاز، فالحكم من الرجال الأشداء الشرفاء .. يختارونه من بينهم بالتراضي، ليحكم بينهم بالتراضي في أمور الديات والمغارم والمنافرات الخاصة بالشرف، وهم لذلك يقبلون أحكامه، ولابد أن يكون قد ظهر من أبناء جهينه في العصر الجاهلي الكثير من الحكام . بخلت علينا مصادر التاريخ بأخبارهم، أما الشاعر، فقد كان لسان قبيلته المتكلم، وصحيفتها الناطقة والمدافعة عنها .. وممثلها في الأسواق والمؤتمرات الأدبية .. لذا كان له دور خطير في المجتمع العربي بعامة، سواء في وقت السلم أم الحرب.
وقد نقل فؤاد سزكين في كتابه «تاريخ التراث العربي» عن الحسن بن بشر الآمدي عناوين ستين ديوانًا من دواوين القبائل في العصر الجاهلي، منها ديوان أو كتاب جهينه، وقد ذكر عبدالكريم الخطيب في كتابه «شعراء ينبع وجهينه» من هؤلاء الشعراء عبدالشارق بن عبدالعزي الجهني .. أورد له «أبو تمام» قصيدة له في ديوانه «الحماسة» وأيضًا الشاعر هلال بن سدوس الجهني، وحسبنا ما ذكرناه منهم علي سبيل الاستشهاد لا الحصر.
أما الكاهن، فقد كان يعتمد علي تسخير الإله حينما يعرض عليه الناس، وقد أسلفنا دور جهينه في هذا المقام، ويجب ان نضيف إلي لائحة حياة جهينه الاجتماعية الاعتقاد بالجن، الذي عرف في بعض نواحي بلاد العرب قبل الإسلام، وكان معتقدوها يزعمون أن المواضع التي تصيبها الكوارث تكون بعد هلاكها مواطن للجن، وأن الجن تختار الأماكن الموحشة المقفرة البعيدة عن الناس، وعلي الرغم من كون الجن أرواحًا غير منظورة، فإنهم اعتقدوا بإمكان رؤيتها ومخاطبتها، وتتمثل عندهم في الغالب بأشكال حيوانات ذات شعر كثيف، وقد تصور المؤمنون بالجن أن الحيات هي بنات الجن، وأنها إحدي عشائرها المهمة، وذهبت مخيلتهم إلي أبعد من ذلك، فجعلوا بينها وبين الله نسبًا، وليس أدل علي اشتهار جهينه بالاعتقاد بالجن، مما ذكره الدكتور جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» .. ان العرب ضربوا المثل بحديث «خرافة» وزعموا أن رجلاً من جهينه سبته الجن، وطالت معاشرته لهم، فإذا استرقوا السمع أخبروه بما تحصل لديهم، فيخبر أهل الأرض فيجدونه كما قال .. وقيل استهوته الجن واختطفته ثم رجع إلي قومه .. فكان يحدث بما رأي ويعجب منها الناس فكذبوه .. فجري علي ألسنة الناس وقالوا هذه خرافة، ويقال أيضًا للخرافات الموضوعة من حديث الليل حديث خرافة.
وإذا نحن تركنا الجن، وتابعنا رحلتنا في حياة جهينه الاجتماعية، فلابد أن نتوقف عند «الفأل والطيرة» فقد آمن بهما الجهنيون شأنهم شأن قبائل العرب الأخري، تطيروا بقرائة أحشاء الحيوانات وبخاصة الكبد، واشتهر عندهم التطير بالمرأة، كانوا في اعتقادهم يتغلبون علي شؤم المرأة وعتبة الدار بالذبائح، وكانوا يتشاءمون أيضًا من بعض الطيور والحيوانات ومن أهمها البوم والغراب والحيوانات ذات العاهات .. وكانوا يتطيرون من الثور مكسور القرن والحية والثعلب .. ومن ناحية أخري كانوا يتفاءلون بالهدهد، فهو عندهم آية اليمن وسبيل الهداية .. وبإجمال، كانوا يعتقدون أن الطيرة والفأل مكتوبان علي الإنسان، وأن حياته ومصيره مقرران.
وبالرغم من أن النبي قد نهي عن التطير بقوله: «أقروا الطير علي مكناتها، ولا تطيروها ولا تزجروها» .. إلا أن الطيرة ظلت سائدة بعد الإسلام، وماتزال حتي يومنا هذا، فقد حكي أن عمر بن الخطاب خرج إلي حرة فلقي رجلاً من جهينه فقال له: ما اسمك، قال شهاب، قال ابن من، قال ابن جموة .. قال وممن أنت، قال من الحرقة .. قال ثم ممن، قال من بني ضرام .. قال وأين منزلك، قال بحرة ليلي .. قال وأين تريد، قال لظي «وهو موضح» فقال عمر إدرك أهلك فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا .. قال فأدركهم وقد أحاطت بهم النار».
وقد ينبغي أن نضيف إلي ما سبق، ما أطلعنا عليه الدكتور شكري فيصل في كتابه «المجتمعات الإسلامية في القرن الأول الهجري» استنادًا إلي المسعودي في الفصل الذي عقده عن التاريخ عند العرب والحوادث التي كانوا يؤرخون بها في كتابه «التنبيه والإشراف» علي حركة مستمرة متلاحقة تطبع الحياة العربية، وتدل علي ما كان من نشاطها الحيوي وصلاتها الدائبة فيقول: تنقل أبناء إسماعيل وأرخ بنو إسماعيل من بناء البيت، حين بناه إبراهيم وإسماعيل، فمازالوا يؤرخون بذلك حتي تفرقت معد، وكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا خروجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون بخروج آخر من خرج منهم من قضاعة وهم: سعد ونهد وجهينه، حتي مات كعب بن لؤي فأرخوا من موته إلي عام الفيل.
وثمة ملمح مشترك تتقاسمه غاليبة القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية في العصر الجاهلي، وذلك هو «أحوال الأسرة» وسدي هذا الملمح ولمحته، أن الزواج الذي كان سائدًا يومئذ، هو ذلك النوع الطبيعي الذي يتماشي مع الحاجات الاجتماعية الأساسية للإنسان والسلوك الفطري له، وقد أقره الإسلام بعد أن قام بتهذيبه ووضع الضوابط التي تحكمه.
وأقرب الاحتمالات في ظننا أن تقول بأن المرأة الجهينية قد كانت أبية تحب الفروسية، وتفتخر بأمجاد البطولة في الحروب، تثير الحماسة وتلهب الحمية، وقد اشتهرت منهن سعدي بنت الشمردل الجهينية» الشاعرة الجاهلية التي اشتهرت بقصيدة في رثاء أخ لها قتله بنو بهز من سليم بن منصور .. وهي الزوجة الفاضلة، والأم صانعة الأبطال، لا ترضي عن ترك عشيرتها وبيت أبيها إلا للارتباط بالفارس الكامل، لقد كانت شجاعة باسلة تتبع رجال القبيلة إلي ميادين القتال تضمد الجراح وتحمل الماء لتسقي المحاربين، وقد شاركت الرجل نكبات الدهر، وتحملت مسؤليتها نحو بيتها وأساتها، فكانت المرأة الحرة تقوم ببعض الأعمال قضاء للواحب ودفاعًا للملل، ومن أشهر أعمالهن غزل أصواف الغنم وأوبار الإبل، وقد وجدن في ذلك منفعة للأسرة وأداة لهوهن، أما رجال القبيلة، فقد اشتهر عنهم في عهودهم الجالية، المروءة وعلو الهمة والوفاء بالعهود، والشجاعة والفروسية والكرم منقطع النظير، فلم تكن خصلة عندهم تفوق الكرم وإغاثة البائس الفقير، كما اشتهروا بالحلم وهو الصفح عند المقدرة، كما اتصفوا بالتسامي عن الدنايا والنقائض، والعفة والوفاء بالعهود وكراهة الغدر، وقد ارتفعوا في الوفاء بالعهد إلي قدسية الدين.
أما عن علاقة جهينه السياسية بقبائل الحجاز، فمن الحقائق المتواترة ان العلاقة بين جهينه وقريش كانت قد توثقت بقيام تعاون سياسي بينهما في العصر الجاهلي الأخير، نتيحة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، واستمر التعاون بينهما قائمًا، لذلك بقيت علي الحياد في الصراع الذي دار بعد الهجرة بين مكة والمدينة، بيد أن جهينه كما يذكر الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري في كتابه «الجزيرة العربية في عصر الخلفاء الراشدين» قد وادعت النبي ثم تحولت إلي الإسلام بعد غزوة الأحزاب، ويحدثنا المؤرخون أيضًا أن جهينه كانت حليفة للخزرج من أهل المدينة قبل الإسلام، وحاربت معهم ضد الأوس وحلفائهم يوم «بعاث» وهو موضع من نواحي المدينة، كانت به وقائع كثيرة بين الأوس والخزرج في الجاهلية.
حياة جهينه الاقتصادية :
كانت جهينه قبل بزوغ فجر الإسلام تنقسم إلي بدو وحضر، والحضر أقاموا في عدة مناطق منها ينبع وقرية الصفراء، والبدو أقاموا في رضوي وغرور «أسماء جبال في تهامة» وغيرها، وهناك اشارات تحملها النصوص والروايات العربية، تشير إلي أن وسائل معيشة الجهنيين، كانت تتفق وطبيعة البادية، فكانوا يقومون في حياتهم علي رعي الإبل والأغنام، والانتقال بها وراء الكلأ والماء، والاستكانة بالنهار والسير بالليل علي هدي النجوم، التي كانوا يرقبونها ويطلقون عليها أسماء مختلفة منذ الزمن البعيد، وكان الإبل هو الحيوان العزيز الذي اتخذه الإنسان في مثل هذه البيئة، فيأكل لحمه ويشرب لبنه، ويصنع من شعره مسكنه وأثاثه ومتاعه وملابسه .. وكذلك كانت جهينه تستخدم الجياد واشتهرت بتربيتها، ويذهب المؤرخون ومنهم «النويري» في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب» وعبدالرحمن زكي في كتابه «الخيل في السلم والحرب عند العرب» ان من أسماء خيول رسول الله «صلي الله عليه وسلم» واحدة باسم «السبحة» وكانت فرسًا شقراء ابتاعها النبي من أعرابي من جهينه بعشر من الإبل .. وسابق عليها يوم خميس، ومد الحبل بيده ثم خلي عنها وسبح عليها، فأقبلت الشقراء حتي أخذ صاحبها العالم، وهي تنير في وجوه الخيل، فسميت سبحة من قولهم فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين في الجري.
وكان الجهني إلي جانب الرعي، استنادًا إلي الدكتور عبدالمنعم ماجد في كتابه «التاريخ السياسي للدولة العربية» يعيش علي حماية التجارة التي تمر بصحرائه، ومن أمثلة ذلك ان سوق الحيرة كانت تقع شمال الكوفة، وكانت مسكنًا لتجارة العرب، تخرج منها قوافل الفرس إلي عكاظ، كما ترد إليها قوافل قريش .. وهي ملتقي بضائع الشرق من الهند والسند القادمة من عمان إلي بلاد الشام، وكانت حراستها لقبائل قضاعة وتجارتها وافرة، كما كان الجهنيون يقومون بالدلالة لهذه القبائل، ونستطيع أن نستطرد إلي جوانب أخري، ومنها أن حياة الصحراء الشاقة، كثيرًا ما كانت تدفع الجهنيين إلي الغزو أو الإغارة علي الوديان أو الاعتداء علي القوافل .. وهذا النسق يشبه عن قرب ما ذكره الدكتور عبدالعزيز صالح في سياق حديثه عن ديار قضاعة الأولي في القرن الثامن ق.م، عندما أقامت قرب واحة تيماء ومنطقة الجوف الشمالي .. لترعي المصالح التجارية لقومها في شمال شبه الجزيرة، وعلي طرق القوافل المتجهة منها إلي الهلال الخصيب.
ولابد أن بعض أفراد جهينه قد مارسوا الزراعة، وقد هيأ لهم ذلك توطنهم في مناطق اشتهرت بخصبها وزروعها وأشجارها، كالتمور الجيدة والحبوب، وكان أكل الجهني شأنه شأن سائر عرب الجزيرة العربية، ما يتناسب مع بيئته مثل التمر واللبن، ومن كان غنيًا منهم يستخرج الخمر االمصنوع من التمر، بيد أن المجاعة وانقطاع المطر، كانت تهدد العربي وأسرته في كل وقت، بحيث إنها كانت تدفعه أحيانًا إلي أكل نحاتة قرون الخروف وأظلافها، وأن يفتح عرقًا في جمل ليشرب دمه، وأحيانًا أخري إذا زاد الجوع ربط حجرًا علي بطنه.
ويبدو أن بعض أفراد جهينه من أهل الحضر قد اشتغلوا بالصناعة، ومعلوماتنا في هذا الصدد مستمدة من «الأب لويس شيخو» في كتابه «النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية» إذ يذكر أن أكثر ما نري صناعة النسيج والحياكة في بلاد قضاعة، وكانوا يبيعون بعضها من أقباط مصر .. فقد قال الثعالبي في كتابه «لطائف المعارف» أن أبناء اليمن كانوا يعيرون بالحياكة، وكان المثل يضرب برباط اليمن وببرود اليمن، وربما كانوا يخططونها، وكانوا يعملون الرحال وينقشونها ويحسنون صنعها، ومن منسوجاتهم أيضًا الطنافس العقبرية التي كان ينصعها بنو قضاعة.
ومما لا يجوز أن يغفل في هذا المقام .. استغلال أفراد جهينه موارد أوطانهم من الثروة المعدنية كالحديد والذهب والفضة .. فامتلكوا بعض المناجم واستغلوها أحسن استغلال .. وكان يهود يثرب يبتاعون منهم موارد خامات مناجمهم .. ويستخدمونها في صناعة الحلي والسلاح.
لماذا عند جهينه الخبر اليقين ؟ :
إذا كان أشهر ما اشتهر به العرب قبل الإسلام هو شعرهم .. فإن أمثالهم كانت بمثابة المرآة التي تعكس حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، ومن أشهر تلك الأمثال التي ذاعت قبل الإسلام وماتزال سارية حتي يومنا هذا مثل: «عند جهينه الخبر اليقين» .. وحكاية هذا المثل أن رجلاً يدعي حصين بن عمرو بن كلاب خرج يطلب فرصة له، فاجتمع برجل من جهينه يقال له «الأخنس» فنزلا في بعض منازلهما، وتعاقدا أن لا يلقيا أحدًا إلا سلباه وكلاهما فاتك، فلقيا رجلاً فسلباه كل ما معه فقال لهما: هل لكما أن تردا عليَّ بعض ما أخذتاه مني وأدلكما علي مغنم .. فقالا نعم، فقال لهما هذا لخمي قدم من بعض الملوك بمغنم كثير وهو خلفي بموضع كذا، فقبلا منه وردا عليه بعض ماله، ثم طلبا اللخمي فوجداه نازلاً في ظل شجرة وأمامه طعامه وشرابه فحيياه وحياهما وعرض عليهما الطعام، فنزلا وأكلا وشربا معه «أي مع اللخمي» ثم إن الأخنس ذهب لبعض شأنه، فاغتنم حصين غياب صاحبه فقام وضرب اللخمي بسيفه، فلما رجع الأخنس وجد سيف صاحبه مسلولاً، ووجد اللخمي يتشحط في دمه، فسل سيفه وقال لحصين ويحك قتلت رجلاً تحرمنا بطعامه وشرابه، فقال حصين اقعد يا أخا جهينه، فلهذا وشبهه خرجنا، ثم إن الأخنس الجهني شغل صاحبه بشيء ثم وثب عليه فقتله وأخذ متاعه ومتاع اللخمي، ثم انصرف إلي قومه راجعًا بماله، فمر ببطنين من قيس يقال لهما سمراج وأنمار» وإذا بامرأة تنشد الحصين في المواسم وتسأل عنه، فلا تجد من يخبرها بخبره .. فقال الأخنس حين أبصرها .. من أنت، قالت أنا صخرة امرأة الحصين الطفاني «ويقال إنها كانت أخته» فمضي وهو يقول :
وكم ضغيم ورد هموس ..... أبي شبلين مسكنه العرين
علوت بياض مفرقه بعضب ..... فأضحي في الفلاة له سكون
وأضحت عرسه ولها عليه ..... بعيد هُدوٍّ ليلتها رنين
كصخرة إذ تساءل في مراج ..... وأنمار وعلمها ظنون
تساءل عن حصين كل ركب ..... وعند جهينه الخبر اليقين
وثمة رأي آخر في المثل أورده القلقشندي في كتابه «قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان» عن الحمداني ومفاده ان جهينه كان يخدم ملكًا يمنيًا، وكان له وزير اسم «نجيدة» إذا غاب الملك خلفه علي محظية له، فتبعه جهينه يومًا من غير أن يشعر به، واختبأ حتي جلس الوزير في مجلس الملك، ولبس ثيابه وعليه السكر فغني:
إذا غاب المليك خلوت ليلي ..... أضاجع خودة ليلي الطويلا
فقام جهينه فقتل الوزير ودفن رأسه تحت وسادة الملك، فلما حضر الملك فقد الوزير فسأل عنه فلم يقف له علي خبر، حتي سكر جهينه ليلة عنده فأنشده:
تساءل عن نجيدة كل ركب ..... وعند جهنية الخبر اليقين
فسأله الملك فأخبره الخبر، فقر به وأحسن جزاءه، وقيل أمرَّه علي بلاد كثيرة.
وهكذا يمكننا أن نخلص إلي أنه إذا كان التاريخ القديم البعيد لجهينه، لم يكتب ولم يدون بعد، بسبب نقص الدراسات والبحوث الطبيعية والأثرية التي تعتبر المصدر الصحيح الوحيد لما يمكن ان يحمد عليه هذا التاريخ، فإن المجهودات الأولية من هذه الدراسات علي قلتها، تثبت بما لا يدع مجالاً للشك عراقة تاريخ هذه القبيلة .. وصحة الكثير مما جاء عن جذورها علي ألسنة النسابين والمؤرخين وعلماء الآثار .