السؤال
أود
استشارتكم - حفظكم الله تعالى - في موضوع أخٍ عزيزٍ عليَّ جداً، قد احترت
جداً في إصلاحه، والصلاح بيد الله وحده. هذا الأخ يحب الالتزام، ويكثر
القراءة كثيراً في كتب العلم الشرعي وقد أرخى لحيته، ولكنه مبتلىً جداً
جداً بحب الشهوات، خاصةً شهوةَ النساء والحرام ، وهو وإن لم يواقع الزنا،
إلا أنه مدمنٌ النظر إلى المواقع الإباحية، ومدمنٌ ممارسةَ العادة السرية،
وهو ميتُ العزيمةِ وليس واهنها، بل عزيمتهُ ميتةٌ ميتة، لا يستطيع المداومة
على أمرٍ من أوامر الله تعالى، حتى الصلاة، لا يستطيع أن يداوم عليها،
كسولٌ جداً جداً في أمور الطاعات بل وحتى في أمور الدنيا، وهو الآن طالب في
الجامعة وهو كثيرُ الغيابِ عن المحاضرات، ولا يداوم إلا لماماً حتى أنه
تعرض للفصل من الجامعة أكثر من مرة، ورغم ارتفاع مستواه العلمي وتفكيره
نظراً لحبه القراءة والكتابة؛ إلا أنه تعرض كثيراً للحرمان في عدد كبيرٍ من
المساقات التي يدرسها في الجامعة، وحُرِمَ بالتالي من دخول الاختبارات،
وأدى ذلك إلى انخفاض معدله التراكمي بشكلٍ كبيرٍ، على الرغم من أنه يدرس في
مجالٍ يحبه جداً، ويتقن الكثير من المقررات الخاصة به، وباختصار: صاحبي
أزمته أزمة عمل لا علم، فهو يقرأ كثيراً، وقرأ عن علو الهمة، وتطوير الذات
وعدم اليأس، وعن أهمية النشاط والعمل، غير أنه لم يستطع أن يتقدم خطوةً
واحدةً في الاتجاه الصحيح، وهو قد ضاق بنفسه ذرعاً، ويئس من صلاحها يأساً
ظاهراً، حتى ظن والعياذ بالله أنه إنما خلق للجحيم لا للنعيم، ويظن أن موته
أنفع من حياته، ويتعرض كثيراً لأزماتٍ ماديةٍ، ودنيويةٍ، وعمليةٍ، وفي
الجامعة، ويخشى على نفسه الفضيحة، وحالته النفسية سيئةٌ جداً، حتى أنه فكر
في الانتحار، والعجيب أنه يتمنى صلاح نفسه، ويريد أن يعيش السعادة
الحقيقية، ويريد أن يكون ناجحا في حياته الدنيا والأخرى، غير أنه ميت
الهمة، مقتول العزيمة، لا نشاط عنده، يتمنى أن يتخلص من مستنقع الشهوات،
وأن يسبح في بحر الأمان في طاعة الرحمن، إلا أنه لا يقوى على السير في درب
الهداية وعلى تحمل المشاق التي فيه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم، وقد حاول كثيراً الالتزام بشرع الله المطهر، والصلاة والبعد عن
الفتن وعن الفواحش، وغيرها من المعاصي والمنكرات، إلا أنه دائماً وأبداً
تصاب محاولاته بالفشل الذريع، ولا يستطيع الاستمرار، بل لا بد من أن ينقطع
في احدى مراحل الطريق، وإن انقطع بلغ اليأس من قلبه كل مبلغ، وشعر أنه لا
فائدة تُرْجى له من الحياة، والله تعالى المستعان!! أنا قد اختصرت لكم حاله
اختصارا، فهل عندكم من علاجٍ له أيها الفضلاء؟ جزاكم الله خيراً، وجعلكم
مفاتيح للخير، وهداةً إلى الله تعالى ودالينَ عليه.
الجواب
أخي
السائل: الذي أرسلته إلينا ليس سؤالاً، بل هو قطعة أدبية جميلة عالية
الأسلوب رفيعة البيان، وهي تقدم وصفاً دقيقاً لحالة صاحبك، وتقدم مع الوصف
التشخيصَ والتعليل، فلم يبقَ لي الكثير لأضيفه بعد ذلك كله.
أنت قلت إن صاحبك لا يعاني من أزمة فهم وعلم، بل من مشكلة عمل وتطبيق، وهذا صحيح.
ولعل
مراقباً بعيداً يحكم على صاحبك حكماً قاسياً ويعتبره رقيق الدين ضعيف
الإيمان، أما أنا فأراه على العكس من ذلك، وأحس بقوة إيمانه تخترق سطور
رسالتك وتنطق بها كلماتها. إنه نموذج لشخص يؤمن بمبدئه إيماناً شديداً، لكن
متطلبات النفس الضعيفة تعوقه عن الالتزام بتبعات هذا الإيمان. إنه صاحب
إرادة هشة ضعيفة، ولو كان الذي يحمل مثلَ هذه الإرادة معدومَ الإيمان لوقع
في كبائر المحرَّمات من أول يوم، غير أنه يحوم حولها ويقترب منها ثم لا يقع
فيها. نعم، الذي يقترفه محرَّم، لكنه من صغائر الذنوب لا من كبائرها، ولو
أنه أصر على الصغيرة لصارت كبيرة، لأنها لا صغائر مع الإصرار ولا كبائر مع
الاستغفار، ولكنه يتوب ويعزم -كما يبدو من وصفك- ثم تضعف إرادته فينساق
وراء شهواته ورغباته، فهذا ممّن يصحّ فيهم قول رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "كفّارة الذنب الندامة"، وقوله: "لو عملتم الخطايا حتى تبلغ خطاياكم
السماءَ ثم ندمتم لتاب الله عليكم"، وقوله: "إن العبد ليعمل الذنب فإذا
ذكره أحزنه، وإذا نظر الله إليه قد أحزنه غفر له ما صنع قبل أن يأخذ في
كفارته بلا صلاة و لا صيام".
وهي كلها أحاديث ضعيفة، ولكن معناها
ليس غريباً عن مفهوم التوبة في الإسلام، والنبي صلى الله يقول في الحديث
القدسي الذي يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "يا ابن آدم: إنك ما دعوتني
ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي. يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان
السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم: إنك لو أتيتني بقراب
الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"، وهو حديث
صحيح، وله من بابه شواهد لا تحصى. إن باب التوبة في ديننا الرحيم العظيم لا
يقارَن بسَعَته بابٌ، ولو أردت الاستقصاء لضاق بأحاديث التوبة هذا المقام،
وإنما ذكرت الأحاديث الأولى -على ضعفها- لأنها جعلت "الندم" سبباً
للمغفرة، والندم هو الخطوة الأولى في طريق التوبة، ولا يكون مع الندم إصرار
واستكبار، لا يكون مع الندم إلا التوبة والاستغفار.
لنركّز على
موطن العلة إذن، وأنت عرفتها فذكرتها، وهذه هي بكلماتك: "إنه يتمنى صلاح
نفسه، ويريد أن يعيش السعادة الحقيقية، ويريد أن يكون ناجحاً في حياته
الدنيا والأخرى، غير أنه ميت الهمة مقتول العزيمة". هذا هو لب المشكلة: همة
ميتة وعزيمة خائرة. فهل من علاج لهذا الداء؟
الجواب: نعم، وهو قد يكون علاجاً طويلاً وشاقاً، ولكن أرجو أن يكون فيه البرء والشفاء إن شاء الله.