عبادة عظيمة من العبادات التي يُتقرب بها إلى رب البريات ، عبادة هي من أبواب الجنات ، عبادة موصلة إلى رضا الرحمن الرحيم ، هذه العبادة هي بر الوالدين .
نحن لا نذكر تلك الأيام التي كنا فيها في ظلمات الأرحام، ولا ما نزل بأمهاتنا في الولادة والرضاعة من الزفرات والآلام، لكن الله يذكرنا بتلك الأيام فيقول جل وعلا وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ، تسعة أشهر من الحمل، عانت فيها أمك الأمرين وَهْناً عَلَى وَهْنٍ ، كرهًا على كره، تفرح بحركتك وأنت تميل، وتُسر بزيادة وزنك وهو عليها حمل ثقيل. ثم حانت لحظة الولادة، ورأت فيها الأم الموت والألم، فلما خرجتَ إلى الحياة، امتزجت دموعُ صراخك بدموع فرحها، وأزالت رؤيتُك كلَّ آلامها وجراحها: كنت رضيعًا ضعيفًا، فأعطاك الله الحواس، وأحاطك بأرحم الناس، أمٍّ حنونٍ تسهر على راحتك، وأبٍ رحيمٍ يسعى لمصلحتك، حملتك أمك في قلبها، جعلت حجرها لك فراشًا، وصدرها لك غذاءً، تسهر إذا مرضت، وتحزن إذا تعبت، وبيديها تغسل الأذى عنك، أمّا أبوك، فأنت له مجبنة مبخلة محزنة، يكد ويسعى ويدفع عنك صنوف الأذى، ويجتهد في تربيتك وإصلاحك، ويبذل كل ما في وسعه في سبيل إسعادك ونجاحك.
هذان هما والداك وتلك هي طفولتك وصباك، فلماذا التنكر للجميل؟ وعلام الفظاظة والغلظة، وكأنك أنت المنعم المتفضل؟!
الله الله في برهما والإحسان إليهما وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ، وأخيرًا كبرت وأصبحت رجلاً، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!
إن برَّ الوالدين فرض واجب بإجماع الأمة، بل الديانات كلها، يكفي فيه أن الله تعالى قرنه بتوحيده فقال تعالى وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .
من أجل ذلك كان للسلف الصالح مقامات في البر، وصفحات في الإحسان، لا يتسع لذكرها الزمان.فعَنْ عَائِشَةَ –رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ "نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟! فَقَالُوا: هَذَا حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَلِكم الْبِرُّ، كَذَلِكم الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ".
كذلكم البر : أي مثل تلك الدرجة تنال بسبب البر .
واعلم وفقك الله لطاعته وأرشدك لهدايته أن البر يكون بالسمع والطاعة: فإذا أمرك والداك في غير معصية فطاعتهما واجبة، أطع والديك دائمًا، وقدم أمرهما، واطلب رضاهما قبل كل شيء .
إن البر يكون بالتوقير والاحترام؛ قال تعالى فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ، خاطب والديك بأدب، حتى وإن أخطآ، لا تجادلهما أو تعاندهما، أو ترفع صوتك عليهما، بل حاول أن تبين لهما الصواب بأدب وحكمة. لا تنظر إليهما بغضب أو احتقار، لا ترفع يدك عليهما عند تكليمهما، لا تقاطع حديثهما، لا تكذب عليهما فإن ذلك من البر والإحسان بهما. قل لهما قولاً كريمًا، حسنًا طيبًا مصحوبًا بالتقدير والاحترام، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة في كل قول أو عمل تقوم به نحوهما، سواء أحببته أم كرهته، من غير ضجر ولا جدل؛ ذلك أن كثيرًا من الأولاد يظنون أن البر والإحسان بوالديهم هو فيما يوافق رغباتهم وما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم، ولو كان فيما يوافقها فقط لما سمي برًّا، فإذا علم أبوك أو أمك -أيها الولد- بسفرك مثلاً إلى بلد ما أو مصاحبة رفقة ما، ونهياك عن ذلك أو نهياك عن السهر على اللهو واللعب، وكرهت نهيهما لأنه يخالف هواك، وسافرت واتبعت هواك وخالفت نهيهما، فقد أسأت إليهما، ولم تحسن إليهما، وعققتهما ولم تبر بهما، وإذا أمرك أبوك أو أمك بمعروف أو بفعل خير وكرهت ذلك ولم تنفذه، فقد عصيتهم ولم تحسن إليهم، وليس أصعب على الوالدين من أن يرفض الولد لهما طلبًا أو يعصي لهما أمرًا.
إن البر يكون بالدعاء لهما: اجعل الدعاء لهما ملازمًا لك، تذكرهما في سجودك، في وترك، في دعائك المطلق، ادع لهما بالرحمة، بالمغفرة، بالعافية، بالهداية والصلاح، بطول العمر على الطاعة، بحسن الخاتمة، بدخول الجنة والنجاة من النار، بأن يجزيهما عنك خير الجزاء. فما أَحْوَجَ الوَالِدَينِ إذا ماتا إلى دُعَاءٍ صَالِحٍ من ابنِهِما تُرْفَعُ بِهِ درجاتُهُما، قال رَسُولَ اللهِ "إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذَا؟! فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ".
إن البر يكون بالإنفاق عليهما وخدمتهما وقضاء حوائجهما: لا تستصغر خدمة والديك، كن لماحًا ، وحاول أن تعرف ما يحتاجان، أو اسألهما عنه، يريد أن يجلس والدك فبادر إلى الكرسي أو المتكأ فقربه له، ترى والدتك تفكر اسألها، (افعل شيئًا يحبه الوالدان، دون طلب منهما )، حاول أن تلبي طلبهما مهما عظم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، فعن محمد بن سيرين قال: "بلغت النخلة في عهد عثمان بن عفان ألف درهم، قال: فعمد أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- إلى نخلة فعرقها، فأخرج جمارها، فأطعمه أمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم، والجمار لا يساوي درهمين؟! قال: "إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها".
ليست إساءة الوالدين وتقصيرهما في حقك مسوغًا لعدم البر أو مبيحًا للعقوق، فعلى والديك ما حملا وعليك ما حملت من الواجبات، ولا أظنك ترى أنَّ حقك أعظم من حق الله، ومع ذلك فقد أمر الله ببر الأبوين وإن كانا كافرين به سبحانه فقال جل في علاه وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا .
عليكم بالسعي في رضا الله بإرضاء الوالدين فقد قال رسُولَ اللهِ "رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا". وعن ثوبان قال: قال رسول الله "إن الرجل ليحرم الرزق بذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلاّ الدعاء، ولا يزيد في العمر إلاّ البر". قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة". وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله "من أحب أن يمد له في عمره، وأن يزاد له في رزقه، فليبر والديه، وليصل رحمه" ، وعن عمر قال: سمعت الرسول يقول: "يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص، فبرأ منه إلاّ موضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل".
يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصر ببرهما في حياتهما، وندم على ما فرط وخاف من عاقبة العقوق: اعلم أن باب الإحسان بهما مفتوح، وبإمكانك أن تدرك شيئًا ولو قليلاً من البر بعد موتهما، لعل الله تعالى أن يعفو عنك ويرضي عنك والديك، من ذلك: الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام أصدقائهما، وإنفاذ عهدهما .