عدد المساهمات : 1780عدد النقاط : 3615 تاريخ التسجيل : 04/12/2012اوسمتي :
موضوع: الدولة البويهية الخميس مارس 28, 2013 10:36 pm
حقائق عن الدولة البويهية
نشات دولة البويهيين بالاساس نتيجة جهود ثلاثة اخوة. كان ابوهم فقير الحال. شائت ظروف الحياة ان يكون هؤلاء الاولاد في خدمة ملك الفرس مردارش، وبعدما اكتشف الملك صفة الشجاعة القتالية والكفائة الادارية فيهم الزمهم مناصب حكومية عالية في مملكته. وعندما قتل هذا الملك انقلب الاخوة على مملكته وتمكنوا من فرض سيطرتهم على المدن الرئيسية فيها، وعندما استتب الوضع السياسي لهم بعشر سنوات اتجهوا بجيش جرار صوب العراق واحتلوا بغداد عاصمة الا مبراطورية العباسية.
في البداية قطع الاخوه الثلاثة العهد للخليفة العباسي وبايعوه، لكنهم نكثوا العهد فيما بعد واصبحوا هم الحكام الفعليين في البلاد. لكن شهد لهم التاريخ انهم اهتموا بالعمران ونشروا العلوم والاداب وثقافتهم الفنية الحاذقة.
لقد اصبح الخليفة في الدولة العباسية في اواخر ايامها العوبة في ايدي الامراء البويهيين فقد جردوه تدريجيا من معظم سلطاته الدينية والدنيوية. ونتيجة لازدياد نفوذ الاتراك في جيشهم وسياسات اجتماعية ومذهبية خاطئة، سقطت دولتهم على يد السلاجقة.
حكمت اسرة بويه رقعة كبيرة من العالم الأسلامي عرفت بالدولة البويهية ابتدات عام 321 للهجرة، كان ابوهم بويه صياد سمك يعيش في احدى محافظات ساحل بحر قزوين بينما اولاده كانوا في خدمة الملك كما اسلفنا، وعندما استولوا على ملكه بعد موته زحفوا الى مدن اصفهان وهمدان وشيراز وكرمان والري – طهران الحاليه – واستولوا عليها ونجحوا في بناء صرح دولتهم في بلاد فارس، وعندما دخلوا العراق عن طريق حلوان نزل احمد ابن بويه في معسكر باب الشماسة حيثما اخذت عليه البيعة للخليفة العباسي المستكفي بالله الذي استحلف له باغلظ الايمان ان يحافظ على سلطة الخلافة ويحترم سيادتها، بعدها قام الخليفة المذكور باضفاء لقب معز الدولة عليه، كما لقب اخاه الثاني بعماد الدولة والثالث بركن الدولة، ثم امر الخليفة بأن تضرب القابهم وكناهم على العملات المحلية من الدرهم والدينار....،
عندما شاع خبر قدوم الجيش الفارسي الى بغداد، ساد الهرج والمرج بين الاهالي واضطربوا، وهرب الأتراك الى الشمال، وهكذا دخل معز الدولة بغداد عام (11 من جمادى الأولى 334 هـ = 19 يناير 946م).. بجيوشه الجرارة بصورة سلمية دون اراقة الدماء، ومهما كانت الظروف الا ان الحياة عادت الى طبيعتها في بغداد وهدات بعد حين.
وقبل ان تستتب الاوضاع الامنية نظر القائد الفارسي شطر الشمال فوجد ان هناك امارة عربية رابضة في الموصل تدعى الدولة الحمدانية قد تشكل خطرا عليه، وفي نشوة الانتصار واصل زحفه باتجاه المدينة المذكورة بغية احتلالها. لكن اميرها ناصر الدولة الحمداني خرج هوالاخرمن الموصل لملاقاة عدوه. لكن الجيشان لم يلتقيا بل واصلا السير، فالامير الفارسي وصل الى الموصل واحتلها واقام فيها مثلما دخل الامير العربي بغداد وحكمها، وهكذا تبدوالمسئلة على جانب من الطرافة لانها اقرب ما تكون الى المبادلة بين الولايات.
لم يلبث الاميران العربي والفارسي على هذا المنوال طويلا بل تصالحا بعد حين وعاد كل منهما الى عاصمته قالحمداني رجع الى الموصل والبويهي الى بغداد.
اما بشان اصل البويهيين ونسبهم فقد اختلف المؤرخون في تثبيته، ففريق منهم وعلى راسهم الشيخ محمد حسين ال ياسين قال: ان شجرة العائلة البويهية تنحدر اصلا من سلالة ملوك الفرس القدماء احفاد الملك يزدجرد بهرام الساساني، بينما الفريق الاخر ومنهم المؤرخ الشهير مسكويه يقول ان شجرة النسب لاسرة ال بويه في مجملها مجهولة، وان ما قيل ليس سوى محاولة لتمجيد هذه الاسرة طالما ان الباحث لم يشير الى دليل يعتمد عليه اومصدر يستند اليه ولذا يعتبر هذا النسب ملفقا.
يذكرنا هذا الموقف بحالة بعض حكام العرب الذين قفزوا الى قمة السلطة في غفلة من الزمن وارادوا ان يفضوا صفة الشرعية على حكمهم الغير شرعي، فادعوا انهم منحدرون من شجرة نسب توصلهم الى اسرة النبي محمد، كان النميري الذي حكم السودان في السبعينيات من القرن الماضي احد هؤلاء الادعياء.
يقول المؤرخ ابن الاثير حينما استولى معز الدولة على مقاليد الحكم في العراق نادى في الناس الامان ونشر العدل وبدا في اصلاحات كثيرة، فقد انشا اول مستشفى في بغداد وارصد لها اوقافا جزيلة وتصدق بمعظم امواله الخاصة واعتق عبيده ورد كثيرا من الاموال التي صودرت من اصحابها في العهد السابق، انه كان كريما وعادلا.
اما الاخ الثاني ركن الدولة فقد كان واسع الصدر حسن التدبير منزها من الظلم يجري الأرزاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل، كان يحب الصالحين من الناس ويقربهم الى جواره ولذا مال اليه الشعب وعظموه.
كما يقول المؤرخ امير علي : ان البويهيين شجعوا الروح الفنية وعمروا مدارس بغداد وحفروا الجداول وهياؤها للملاحة وبعملهم هذا ازالوا خطر الفيضانات الدورية التي كانت تغمر المناطق المزروعة. واسسوا في بغداد الكليات للعلوم والاداب .
لقد امتاز عهد البويهيين بالخصب والعطاء خاصة في المجال العلمي والادبي وذلك بفضل تشجيع امرائهم ووزرائهم للثقافة العامة حيث كانوا يستقدمون اشهر العلماء والكتاب من مختلف دول العالم واعتمدوا على الاكفاء منهم في ادارة شوؤنهم السياسية والمالية وبذلك لمعت اسماؤهم وعظمت هيبتهم وطار صيتهم في الافاق فقصدهم اهل العلم والمعرفة من شتى البقاع فاستفادوا وافادوا خاصة في ميادين الفلسفة فكان اثرهم الفكري سابغا وواسعا...هذا ما يقوله المؤرخ الغناوي في كتاب الادب في زمن بني بويه
لقد بلغت الحياة الثقافية في العهد البويهي ذروتها فشملت حقل الاداب بما فيها من نثر وشعر وتطورت الدراسات اللغوية وازدهرت الحياة العقلية وتكاملت العلوم الفقهية وظهرت البحوث في التاريخ والجغرافيا والهندسة والطب وعلم الفلك كما برزت الحركة الصوفية والدراسات الدينية على مختلف مواضيعها من تفسير القرأن الكريم الى الدراسات التحليلية في الاحاديث النبوية مثلما لجات المذاهب الأسلامية الى منطق العقل والفلسفة الواقعية لتاييد ارائها وبذلك حدثت نهضة علمية كثرت فيها التصانيف والمناظرات ادت بدورها الى ظهور مفكرين رواد واساطين المفسرين والفقهاء والشعراء والفلكيين.
اشتهر الامراء البويهين برعايتهم اهل الفكر من اقمار العلم والادب والمترجمين، ففي عهدهم تولى الوزارة في بغداد العلامة ابومحمد المهلبي الذي افاض على العلماء وفرة من النعمات.
يصرح المؤرخ ابن كثير في كتاب البداية والنهاية قوله: كان الامراء البويهيون معروفون بالسلوك المهذب والادب الرفيع يظهرونه في المحافل الرسمية وكانوا اكثر الناس اتباعا للاصول والمجاملات المتمثلة بالاحترام المفرط حتى اصبحوا مضربا للامثال.
يقول المؤرخ العراقي رشيد خيون في كتابه المذاهب والاديان – كان العهد البويهي يتميز بحرية العقائد وسلك امرائهم سياسة نشر الثقافة فقد شجعوا العلوم والاداب والفنون واشاعوا الحوار والمناظرات الفكرية وكان من ابرز وزرائهم المفكر العربي المعروف صاحب ابن عباد.
وجاء في النجوم الزاهرة – لقد ازدهر الفن زمن البويهيين في كل مجالاته وبرع الفنانون الفرس في دقة مزج الالوان واتقان النقوش الهندسية وكانت شهرتهم في فن النقش لها صداها في سائر البلدان حتى وصلت عبقرية المصورين عند بعضهم الى وضع رسوم المنسوجات وخاصة على السجاد العجمي الشهير، فاتقنوا صنعها وتفننوا في زخارفها حتى وصلت درجة النبوغ الفني عندهم في الهندسة المعمارية مرتبة الاستاذية الفائقة وتجلت معالمها في روعة العمائر الفخمة وفي بهاء المنائر الدينية وعظمة القبب المطعمة بنقوش الفسيفساء الملون، والتي لازالت بغداد تزخر ببعض اثارها حتى يومنا هذا رغم مرور اكثر من الف عام على انشائها.
ويعد عماد الدولة علي بن بويه مؤسس هذه الدولة، وكان متصفًا بالحكمة والأناة، اتخذ من شيراز قاعدة لدولته، وخص أخويه بمنطقة يحكمها كل واحد منهما باسمه، فكان الجزء الشمالي من بلاد فارس تحت حكم ركن الدولة حسن بن بويه، أما العراق فكان يحكمها أخوه الأصغر أحمد بن بويه.
وبعد موته انتقلت رئاسة البيت البويهي إلى ركن الدولة سنة (338هـ = 949م)، وانتقلت عاصمة البويهيين إلى "الري" حيث كان يقيم ركن الدولة، وتولى ابنه عضد الدولة حكم شيراز. (1)
يقول المستشرق متز – في كتاب الحضارة الاسلامية – كان عضد الدولة يمثل الحاكم تمثيلا حقيقيا فقد حرص على جمع الاخبار وايصالها بسرعة غير معهودة، فكانت تنتقل بين بغداد وشيراز ببلاد فارس في سبعة ايام اي بمعدل 150 كيلومتر في اليوم الواحد بعدما طهرت الطرقات من السراق واللصوص ومحي اثر قطاع الطرق ووطد الامن في صحراء الجزيرة العربية واصبحت لقوافل الحجاج سواقي مياه بعدما حفروا الابار وفجروا الينابيع واقاموا السدود كما امر عضد الدولة ببناء سوق البزازين في بغداد والزم ابناء الشعب ببناء دور سكنية لهم ومن قصرت يداه اقرضته الدولة من بيت المال. ومن اعماله الاصلاحية ازالة مطارح الاوساخ والقاذورات من مختلف مناطق بغداد وتحويلها الى مناطق خضراء رحبة جلب اليها من بلاد فارس مختلف انواع المغروسات. كما امر ببناء الجسور والقناطر واقامة نظام السقاية فكان باعثا قويا لجذب جماعات غفيرة من عرب البادية الرحل الى الاراضي المستصلحة وتشجيعهم على حياة الاستقرار وممارسة الزراعة ، وكان ضمن اعماله العمرانية اهتمامه ببناء الجوامع واقامة دور ضيافة لاستقبال القادميين من الزوار الى العتبات المقدسة في العراق، فضلا عن انشائه معابد لليهود وكنائس للنصارى ومساعدته اياهم في شتى المجالات... وكان يوزع المال سنويا على الأرامل واليتامى... ويتبرع للحجاج الحفات سنويا ثلاثة الاف دينار لشراء الأحذية وعشرة الاف درهم لتكفين الموتى من الفقراء ولم يمر بماء جار الا وبنى بجانبه قرية وكان يمد المال الى اصحاب الدور الكائنة على طريق الحج ليقدموا العلف الحيواني لدواب المسافرين الى بيت الله الحرام.
البيمارستان العضدي ان أعظم إنجازات عضد الدولة البويهي إنشاؤه لبيمارستان كبير نسب إليه، فعرف باسم البيمارستان العضدي، أقامه سنة (371هـ = 1092م) في الجانب الغربي من بغداد، وزوده بما يحتاج إليه من الأطباء والممرضين والخدم والطباخين والأدوات والأدوية، وألحق به بيمارستانًا للمجانين، وكان يعمل به ما يزيد عن ستين طبيبًا في مختلف الاختصاصات، استقدم عضد الدولة بعضهم للعمل في البيمارستان في أماكن مختلفة، وبين هؤلاء الأطباء: جبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبويعقوب الأهوازي، وأبوعيسى بقية، والكحال أبونصر الرحبي، وكان يتولى رئاسة الأطباء في البيمارستان أبوالحسن ثابت بن سنان.
والبيمارستان كلمة فارسية الأصل تعني المستشفى أودار المرضى، وهي مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار. وقد تحولت الكلمة مع مرور الزمن إلى "مارستان" التي لا تزال تطلق الآن على مستشفى الأمراض العقلية. ويعد البيمارستان العضدي واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.
وكانت تلك البيمارستانات تسير وفق نظام دقيق وترتيب غاية في الإحكام، فهي تنقسم إلى قسمين منفصلين، أحدهما للذكور والآخر للإناث، ويضم كل قسم قاعات فسيحة لمختلف التخصصات الطبية كالأمراض الباطنية، والجراحة، والكحال (الرمد)، والتجبير (العظام).
ولكل قسم من هذه الأقسام مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب يتناوبون العمل فيما بينهم، ويقوم على كل طائفة منهم رئيس لإدارتها وتفقد أحوال المرضى، ويعاون الأطباء مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.
وإلى جانب هذا النظام الداخلي لعلاج المرضى كان يوجد عيادات خارجية تقوم على خدمة المرضى وعلاجهم مما لا تحتاج حالتهم إلى استبقائهم داخل البيمارستان، فكان الطبيب يجلس على دكة، يكتب لمن يرد عليه من المرضى أوراقًا يعتمدون عليها، ويأخذون بها الأدوية والأشربة من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وهي تعد جزءًا مهمًا من مرافق البيمارستانات يقوم عليها الصيادلة، وتحتوي على أنواع مختلفة من الأدوية والأشربة والمعاجين. (1)
رسالة من مريض إلى أبيه ويحسن هنا أن أنقل ما كتبته المستشرقة الألمانية "سيجريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تطلع على الغرب" عن مريض كان يعالج في أحد مستشفيات قرطبة كتب رسالة إلى أبيه يصف له ما وجده من غيابه في المستشفى، يقول:
"لقد سجلوا اسمي هناك بعد المعاينة، وعرضوني على رئيس الأطباء، ثم حملني ممرض إلى قسم الرجال، فحمّني حمامًا ساخنًا، وألبسني ثيابًا نظيفة من المستشفى، وحينما تصل ترى إلى يسارك مكتبة ضخمة وقاعة كبيرة حيث يحاضر الرئيس في الطلاب، وإذا ما نظرت وراءك يقع نظرك على ممر يؤدي إلى قسم النساء، ولذلك عليك أن تظل سائرًا نحواليمين، فتمر بالقسم الداخلي والقسم الخارجي مرورا عابرا، فإذا سمعت موسيقى أوغناء ينبعثان من قاعة ما، فادخلها وانظر بداخلها، فلربما كنت أنا هناك في قاعة النُقَّه (جمع ناقه) حيث تشنف آذاننا الموسيقى الجميلة ونمضي الوقت بالمطالعة المفيدة.. واليوم صباحًا جاء كالعادة رئيس الأطباء مع رهط كبير من معاونيه. ولما فحصني أملى على طبيب القسم شيئًا لم أفهمه، وبعد ذهابه أوضح لي الطبيب أنه بإمكاني النهوض صباحًا، وبوسعي الخروج قريبًا من المستشفى صحيح الجسم معافى، وإني والله لكاره هذا الأمر، فكل شيء جميل للغاية ونظيف جدًا، الأسِرّة وثيرة وأغطيتها من الدمقس الأبيض، والملاء بغاية النعومة والبياض كالحرير، وفي كل غرفة من غرف المستشفى تجد الماء جاريًا فيها على أشهى ما يكون، وفي الليالي القارسة تدفأ كل الغرف...".
وكانت تلك البيمارستانات تُرصد لها الأوقاف؛ ليصرف من ريعها على رواتب الأطباء والعاملين، علاج المرضى، وخصص لإدارتها ناظر يقوم على أمرها وعلى الأموال والأوقاف المخصصة لها، وكان هذا المنصب من الوظائف الديوانية العظيمة في الدولة لا يُختار له إلا الأكفاء من ذوي القدرة والأمانة.
اما في مجال الثقافة فكان عضد الدولة يشجع العلماء امثال الشيخ المفيد، (صاحب المؤلفات العديدة) ويجزي العطاءعلى الفحول من الشعراء ضمن سياسته العامة في تشجيع الاداب حتى وصل الامر بابي الطيب المتنبي ان ينشد قائل:
لقد رايت ملوك الارض قاطبة وسرت حتى رايت مولاها
ومن الاعمال الخالدة لعضد الدولة تجديد مشهد ضريح الامام على –ع– في النجف الاشرف الذي اوصى ان يدفن جثمانه الى جواره وينحت على صخرة قبره هذه العبارة : –هنا يرقد عضد الدولة وتاج الملة الذي احب مجاورة هذا الأمام المعصوم للخلاص في يوم كل نفس تأتي بما كسبت –
جاء البويهيون الى العراق على راس جيش فاتح واسسوا في مركز الخلافة العباسية في بغداد امارة وراثية، كانوا لا يعترفون بشرعية الخلافة العباسية في حكم العالم الاسلامي معتقدين ان العباسيين اغتصبوا الخلافة واخذوها عنوة من مستحقيها العلويين فخلفاء بني العباس في نظرهم لم يكن عندهم ما يحثهم على طاعة الله ورسوله لذا كانت سياسة الاحترام والسلوك المهذب الذي انتهجوها قبال الخلفاء هي سياسة ماكرة مبطنة يشوبها الريبة والحذر خاصة بعد ان شك الحاكم البويهي معز الدولة باتصال الخليفة العباسي المستكفي بالله بالدولة الحمدانية في الموصل طالبا مناصرتهم له، فقد قاده شكه هذا الى ان ياخذ قرارا بخلع الخليفة العباسي من منصبه.
فسار اثنان من وزرائه الى غرفة نوم الخليفة وتناولا يده وجذباه من سريره وجعلا عمامته في حلقه ثم سحباه خارجا وادخلاه الى مقر قصر الأمير وسجناه في احدى حجراته. لكن بعد فترة من الزمن عفى عنه الامير واعاده الى دار خلافته بعد ان حدد له محل اقامته وراتبا لا يتجاوز الفين درهم شهريا، واعتبر المؤرخون هذا الحدث نهاية عهد الخلافة العباسية في بغداد بصورة فعلية.
وفي منتصف القرن الرابع الهجري تمرد اغلب امراء المقاطعات على الحكومة المركزية في بغداد بعدما تبين لهم ضعف الخلفاء وتضعضع الاوضاع السياسية فيها واصبحوا هم حكامها الفعليين رغم كونهم بقوا محتفظين باعترافهم لسلطة الخليفة العباسي السياسية والدينية، وقد حاول الفقهاء تبريرا شرعيا للنظام القائم، وتوصلوا الى ايجاد صيغة توافق بينهما ووضعوا اسسها مما جعل السلطة الدينية من اختصاص الخليفة العباسي بينما السلطة الدنيوية تبقى ضمن امتياز الامير البويهي، لكن رغم كل ذلك تمادى البويهيون مطالبين الخليفة مشاركتهم في امتيازات الخلافة وشاراتها الدينية والزمنية معا. لتشمل صلاحية الاشراف على ادارة النفقات العامة ودفع رواتب الجند ومراقبة امور الدولة، فاجابهم الخليفه الراضي بالله بأنه قد قلدهم قيادة الجيش وافضى عليهم لقب امير الامراء وفوضهم ادارة امور المملكة كما امر لهم ان تذكر اسماؤهم من على المنابرفي صلاة الجمعة، معنى ذلك ان الخليفة اعترف ضمنا بالوجود المادي للمحتل الذي يزاحمه في حكم الأمبراطورية الاسلامية واقراره على ضعف سلطة الخلافة وتحويلها التدريجي الى السلطة العسكرية البويهية، فقد غدا الخليفة العباسي العوبة بيد الفرس الغزاة حتى تقلصت امتيازاته اخر المطاف واقتصرت على ادارة مطابخ قصر الخلافة ومنح العطايا ليس الا، رغم ذلك استمرت المضايقات وتضاعفت الى حد اصبح الخليفة عاجزا على مواجهتها....
واخيرا وفي غمرة الأحداث المضطربة اصيب الخليفة العباسي بدهش شديد عندما تفاجئ بقدوم الحاكم العسكري بختيار الفارسي اليه باديا تلهفه في خوض غمار حرب، وعلى الخليفة ان يزوده بالمال الكافي، فيجيبه الخليفة المغلوب على امره برسالة ملؤها التشكي والتضرع هذا نصها :
الغزو يلزمني اذا كانت الدنيا في يدي، اما الأن فليس لي في الدنيا الا القوت القاصر بعد ان اصبح كل شئ في ايديكم،
فما يلزمني لاحرب ولا حج ولا اي شئ اخر فلم يبق لي غير هذا اللقب الذي يخطبون به من فوق منابركم تسكتون به الرعية،
فان احببتم اعتزلت الخلافة وتركت لكم الأمر كله
يستدل من هذا الخطاب البائس مدى حالة الياس والقنوط التي المت بالخليفة العباسي في تلك الحقبة من تاريخ العراق، فلم يبق تحت سلطة الخليفة سوى كاتبه، فقد اصبح الرجل في واقع الأمر في خبر كان، حيث كان تعيين الوزراء وعزلهم يتم عن طريق الامراء البويهيين.
وكانت الاوساط الشعبية من اهالي بغداد يرددون هذا البيت من الشعر متندرين:
وزير لا يمل من الرقاعة يولى ثم يعزل بعد ساعة
فقد تدهورت هيبة الخلافة الى حد كان على الخليفة العباسي لزاما ان يقوم بنفسه بزيارة الامراء الفرس في قصورهم في مناسباتهم الخاصة، كعيد نوروز مثلا، وقد احاطوا انفسهم في اوج من روعة مظاهر الأبهة والوجاهة، بدلا من ان يزار الخليفة في قصر الخلافة طبقا لاصول البروتوكول الجارية يومذاك.
لقد تمادى امراء الفرس في اطماعهم الى درجة تجاوزوا فيها الخطوط الحمراء عندما اجبروا الخليفة ان يصدر امرا بوجوب ضرب الطبول على ابواب قصور امراء البويهيين في اوقات الصلاة...
هكذا استمرت الصلاحيات تنتزع من الخلفاء العباسيين الواحدة تلوا الأخرى من قبل امراء الفرس ذوي الجاه والسلطان بالضغط والإكراه.
اما بالنسبة لموضوع ضرب الالقاب على العملة فلها تقليدها ودلالتها الخطيرة لهيبة سلطة الخليفة لان العملة هي الهوية والرمز الاكبر لها... بينما يعتبر ذكر اسم الخليفة اثناء خطبة الجمعة رمزا اساسيا لسلطة الدولة الدينية، لكن البويهيون تمكنوا من السيطرة على صناعة سك العملة واستغلوا سطوتهم وقاموا بمنح انفسهم القابا حسب هواهم ينقشونها على العملة المتداولة كما يحلوا لهم دون اخذ موافقة الخليفة، وفي احد الايام فوجئ العراقيون العرب بكتابات غريبة مسكوكة على عملة الدينار كعبارة - شاهنشاه - لم يعرفوا معناها، انها كانت تعني ملك الملوك.
لقد وصل هيام امراء الفرس بالالقاب الى درجة فاق كل تصور، فهذا الامير الفارسي يأتي الى الخليفة العباسي طالبا منه تثنية لقبه الرسمي، فيقوم الخليفة بالتنفيذ على مضض ليصبح لقبه بعد ذلك في هكذا صورة – الأمير عضد الدولة وتاج المله – وكانت هذه الرتبة اعلى واكبر من كل ما ذكر. فلقب عضد الدولة يعتبر لقبا دنيويا بينما لقب تاج الملة يعتبر لقبا دينيا واهميته تفوق بالمعيار المعنوي والعقائدي مجمل الالقاب الزمنية ولم يكن الخلفاء متساهلين ابدا في منح الالقاب الدينية، لكن الشئ الذي حصل كان نتيجة اصدار فتوى من قبل مجموعة من وعاظ السلاطين وهم موظفي البلاط يدعون بالفقهاء يحيطون عادة فراش الحاكم لتلبية رغباته عند الحاجة .
لكن رغم سيطرة الامراء البويهيين على مرافق الدولة العباسية سيطرة كاملة الا انهم اخفقوا في تنصيب السيد احمد الموسوي عميد نقابة علماء العلويين ووالد الشريف الرضي في منصب قاضى القضاة في بغداد، فقد كان موقف الخليفة تجاههم صلبا ورافضا من تقليد هذا المنصب الى مقام عالم دين منحدر من اسرة علوية ومضى الى سواه.
كان البويهيون الفرس مسلمين على مذهب الامام جعفر الصادق، وقد تهالكوا على تقديس مراقد ائمة المسلمين في العتبات المقدسة وغمروها بفيض كرمهم رعايتهم المفرطة وقد ضرب الامير عضد الدولة المثل الاعلى في هذا المجال كما سبق ذكره. لكن بالتضاد كانت سياستهم تجاه غالبية الشعب العراقي الذين هم من اتباع هذا الامام متسمة بالتجافي والتهميش على طول الخط، وكانما هم ليسو جميعهم منحدرين من نفس الدين والمذهب، مما اثار هذا الموقف الغريب عجب وتساؤل المؤرخين الذين عزوا سبب ذلك الى سياسة المحابات التي انتهجها امراء الفرس حيال القواد الترك في جيشهم ذوي العقيدة الحنبلية، بصرف النظر عن ثقل الموازين واهميتها الاستراتيجية، فقد وضع البويهيون الاعتبارات العسكرية فوق اي اعتبار اخر وتجاوزوا حدود الانحياز حتى دخلوا مع الاتراك في شهر عسل دائم. وخسروا عطف العراقيين المستائين من سياستهم الرعناء التي ساعدت الى ظهور خصومات ونزاعات بين الحكومة المركزية في بغداد ومعظم عشائر العراق، كعشيرة بني حمدان العلوية في الموصل وعشيرة بنومزيد وقبائل عمران بن شاهين في الحلة وكذلك في مناطق اخرى من الفرات الاوسط التي كانت علاقاتهم مع الحكام البويهيين متشنجة بوجه عام.
فلواستثمر الفرس في سياستهم العامل الديني ووطدوا الاواصر الاجتماعية مع قطاعات واسعة من الشعب، لكسبوا رضاها وبالتالي كان في الامكان ان يكونوا لهم خير حام ونصير في الحفاظ على كيانهم المهزوز.
لكنهم لم يحاولوا ان يستثمروا العامل الديني كما فعله العباسيون ونجحوا في ادامة حكمهم الى حد ما، كما حدث في زمن الخليفة العباسي المامون في سياسة التوازن التي انتهجها في استرضاء العلويين عن طريق تقريب زعيمهم الروحي الإمام على بن موسى الرضا الى مجلسه حتى جعله وليا للعهد في الخلافة.
لقد عاشت الدولة البويهية ردحا من الزمن وهي في غياب مع المصالحة الوطنية وبمرور الزمن عملت الاخطاء مع غيرها على نخر هيكلية البنية التحتية لسياستهم، مما مهدت الطريق الى الغزوالسلجوقي لبغداد عام 447 للهجرة فسقطت دواتهم ولم تعش اكثر من قرن واحد وبعض قرن من الزمن حتى صارت اثرا بعد عين.
أسباب سقوط ونهاية الدولة البويهية اتسمت علاقة بلاد فارس بالبويهيين، بعلاقة تبادلية، فكما نجح البويهيون في توفير الأمن وأجواء التسامح وتسهيل متطلبات الحركة التجارية وتوفير متطلبات النمو الاقتصادي، وفوق كل ذلك ضبط الجيش وإبعاده عن صراعاتهم الداخلية، أعطتهم بالمقابل لكل متطلبات استمرار حكمهم لها. لكن أحوال فارس أخذت فيما بعد بالتدهور منذ أيام صمصام الدولة، أي منذ أن نقل البويهيون صراعاتهم إلى داخلها، وكان نظام الوراثة المتبع لديهم أحد أسباب تلك الصراعات، ومنذ أن فقد أمراء فارس القدرة على ضبط الجيش بصراعاته وانقساماته وتعدد ولاءاته وبأعماله مثلما كان عليه جيش العراق.
أما أبر أسباب انهيار الحكم البويهي وسقوط الدولة البويهية فتتحدد بالآتي (4):
خضوع مقاطعات المملكة البويهية (فارس والعراق) لنظام الاقطاع العسكري وانعكاس أضراره على مجمل قطاعات ونشاطات المجتمع، وخاصة النشاط الاقتصادي. وفي ظل سيطرة طبقة العسكر نشأت إمارة الأمراء في العراق، وبالتالي انتقال الإدارة المدنية للبلاد إلى الإدارة العسكرية، وتحديداً أمير الأمراء وقواده العسكريين.
تزايد ظاهرة الصراعات والانقسامات داخل كتل وأجهزة الدولة البويهية، وهذا سبب تدهور الوضع الأمني بشكل عام، وانتشار مظاهر الفساد والسرقة والرشوة وجرائم القتل.
نجاح الفاطميين في سنة 391هـ/100م من تحويل تجارة المحيط الهندي، من الخليج إلى البحر الأحمر، وإلحاق الضرر الاقتصادي الفادح باقتصاد الدولة البويهية.
سيطرة الغزنويين على خطوط المواصلات البرية المؤدية إلى الهند والصين، وهذا الأمر اضعف التجارة البرية لبلاد فارس.
التهديد العسكري والحربي الذي تمثل بالسلاجقة، وحالة الذعر والفوضى التي عمت إيران نتيجة التقدم السلجوقي، ومن ثم استيلائهم على كل مناطق المملكة البويهية، ليضيق الخناق على فارس التي كانت تعيش أسوأ لحظاتها مع أسوأ أمراءها (فلاستون)، الذي لم يستطع أن يقف بوجه إحدى قبائل الأكراد المحلية (شبنكارة) التي نشرت الفوضى والدمار بأرجاء فارس، ثم أطاحت بـ فلاستون، ونصب رئيسها فضلويه، أصغر أخوة فلاستون أميراً، فيما هو الحاكم الفعلي لفارس.
سوء التصرف بخزانة الدولة وعائداتها المالية وما يتصل بالنفقات، كما صارت أموال النواحي والولايات تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها، وفي الوقت ساد فيه الاضطراب على الحالتين المالية والإدارية، فإن الضرائب هي الأخرى كانت عاملاً إضافياً زاد في سوء الأحوال.
ملاك
عدد المساهمات : 329عدد النقاط : 649 تاريخ التسجيل : 14/02/2013الموقع : جمرة هوى
موضوع: رد: الدولة البويهية الخميس مارس 28, 2013 10:43 pm