الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ..
وبعد ..
فقد شهدت العمارة في بلاد الشام خلال العصر العباسي ازدهارا كبيرا ورُقِيّا عجيبا ، وساعد على ذلك الغنى والرفاهية التي كان يعيش فيها الشاميون وقتئذ ، بالإضافة إلى الذوق الرفيع الذي تمتع به عوام الناس ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإن كثرة الحروب التي خاضها الشاميون ضد الروم ومن بعدهم الصليبيين تطلبت الاهتمام بتشييد القلاع والحصون والتفنن في اتقانها لتكون حاجزا منيعا أمام الهجمات المفاجئة ..
وهذه العمارة تمثلت في :
ـ المساجد ، والتي كان لها النصيب الأوفر من فن العمارة، حيث برع الصناع في تشييدها وزخرفتها ، وزينت محاريبها بفصوص الذهب ، وجوانبها بالسويريات ، وأسطحها بالقناديل والمصابيح ، وميضاتها بصنابير المياه ، وحوائطها بالرسوم والأشكال الهندسية البديعة ، ومداخلها بالنافورت..
فهذا أحد مساجد دمشق يقول عنه أحد الرحالة : كان مزيناً كله بالفصوص المذهبة، مزخرفًا بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة ، ومحرابه من أعجب المحاريب الإسلامية سمتًا وغرابة صنعة، يتقد ذهبًا كله، فقد كان في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره، تحفها سويريات مفتولات فتل الأسورة، كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها.
وهذا المسجد الأقصى يقول عنه ناصر خسرو: وتحت الأرض من الحرم المسقوف حوض جُعل بحيث يكون في مستوى الأرض حين يغطى، وقد بني ليجتمع فيه مياه المطر، وكل الأسقف ملبسة بالرصاص، وقد حفرت في أرض المسجد أحواض وصهاريج كبيرة وحمام المسجد كله مشيد على صخرة، فمهما يهطل من المطر لا يذهب خارج الأحواض ولا يضيع سُدى، بل يتصرف إلى الأحواض وينتفع به الناس، وهناك ميازب من الرصاص ينزل منها الماء إلى أحواض حجرية تحتها، وقد ثقبت هذه الأحواض ليخرج منها الماء ويصب في الصهاريج بواسطة قنوات بينها غير ملوث أو عفن، وقد رأيت على ثلاثة فراسخ من المدينة صهريجًا كبيرًا تنحدر إليه المياه من الجبل وتتجمع فيه، وقد أوصلوه بقناة إلى مسجد المدينة، حيث يوجد أكبر مقدار من مياه المدينة ..
هذا وقد كانت المساجد أكثرها مزودًا بنوافذ زجاجية تسمح بمرور الضوء حتى لا تحتاج إلى إضاءة نهاراً، فابن جبير يقول عن أحد المساجد بدمشق: فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث، وإشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه، واتصال شعاع الشمس بها، وانعكاسه إلى كل لون منها، حتى ترتمي الأبصار منه أشعة ملونة يتصل ذلك بجداره القبلي كله، عظيم لا يلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه.
كما اتسمت بكثرة الأبواب، وترك وسط المسجد أو ما يسمى بالصحن دون سقفٍ؛ حرصًا على تهوية المساجد تهوية طبيعية، وكانت تلك الصحون تعمل بطريقة هندسية محكمة بحيث تسمح باستيعاب أي كمية من الأمطار أثناء هطولها وتسريبها إلى الأحواض، بحيث لا تؤثر على جدران المسجد أو أرضيته.
ـ المباني السكنية والتي لاءمت دقة صنعتها أذواق الناس وقتها ، ودلت على رفاهيتهم ، ومثال على ذلك قول المقدسي عن بيوت الرملة:"ذات منازل فسيحة ،بنيانهم حجارة منحوتة حسنة " وقول ابن حوقل عن بيوت صور : مبانيها مرتفعة خمسة أو ستة طوابق وكلها متلاصقة " وقول ناصر خسرو عن بيت المقدس:" بها أبنية عالية ،و كل أرضها مبلطة بالحجارة.
وقول المقدسي عن دمشق : كانت مقسمة إلى ثلاثة أقسام قسم مبثوث العمارة في غوطتها، لو جمع لكان مدينة عظيمة ما بين جواسق وقصور وقاعات وإسطبلات وترب ومشاهد غير القرى والضياع.. والقسم الثاني تحت الأرض منها مدينة أخرى من متصرفات المياه والقنى وجداول ومسارب ومخازن وقنوات تحت الأرض كلها، حتى لو حفر الإنسان أينما حفرمن أرضها وجد مجاري الماء تحته مشتبكة طبقات يمنة ويسرة شيئًا فوق شيء, والقسم الثالث مسورها وما فيه وحوله من المعمور.
ـ الحصون والقلاع والأسوار ،وقد اشتهرت بلاد الشام بعظمها ومتانتها في ذلكم العصر ،وخاصة مدن الثغور والسواحل، فهذه آمد يقول عنها الرحالة : شيدت على صخرة واحدة طولها ألف قدم وعرضها كذلك، وهي محاطة بسور من الحجر الأسود، كل حجر منه يزن ما بين مائة مَنّ وألف، وأكثر هذه الحجارة ملتصق بعضه ببعض من غير طين أو جص، وارتفاع السور عشرون ذرعاً وعرضه عشرة أذرع، وقد بني على بعد كل مائة ذراع برج نصف دائرته ثمانون ذراع، وشرفاته من هذا الحجر بعينه، وقد شيدت في عدة أماكن داخل المدينة سلالم من الحجر؛ لتيسير الصعود إلى السور، وقد بنيت قلعة على قمة كل برج ،ولهذه المدينة أربعة أبواب من الحديد الذي لا خشب فيه ..
وهذه صور يقول عنها ابن جبير : كانت مدينة يضرب بها المثل في الحصانة لا تُلقي لطالبيها بيد طاعة ولا استكانة.. وأما حصانتها وصفتها فأعجب ما يحدث به، وذلك أنها راجعة إلى بابين، أحدهما في البر والآخر في البحر، وهو يحيط بها من جهة واحدة، فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب، وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وصفًا منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص، فالسفن تدخل تحت السور وترسي فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها وعلى ذلك الباب حراس وأمناء لا يدخل الداخل ولا يخرج الخارج إلا على أعينهم، وبلغ من عظم تحصينها أن الصليبيين الذين جاءوا في الحملة الأولى وقفوا أمامها كما يقول فوشيه ( المؤرخ الصليبي ) أربعة أشهر حتى أنهكهم التعب والإعياء، فانسحبوا دون أن يحققوا أي المكاسب ..
وتلك أنطاكية يقول عنها الإصطخري : لها سور دائر بها وببساتينها اثنى عشر ميلاً، وعليها سور عجيب حصين منيع يحيط بها وبجبل مشرف عليها، وفي داخل السور أرحاء وبساتين وجنات.
ـ الأسواق ، فقد كانت المدن الشامية في هذا العصر واسعة الأسواق الكبيرة المتصلة الانتظام المستطيلة ـ كما يقول ناصر خسرو ـ تخرج من سماط صنعة إلى سماط صنعة أخرى إلى أن تفرغ من جميع الصناعات المدنية، وكلها مسقف بالخشب.. وأكثر حوانيتها خزائن من الخشب البديع الصنعة, قد اتصل السماط خزانة واحدة ،وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش ،وتفتحت كلها حوانيت, وكان بعضها مرتفعًا كأنها الفنادق، مثقفة كلها بأبواب حديد كأنها أبواب القصور.
ـ قنوات المياه، والتي كانت بحق من إبداع الشاميين ،وسبقوا بها العالم الحديث، حيث أقاموا شبكة من المياه الصحية الصالحة للشرب في عموم المدن، وكثيرًا ما نجد في كتاب الرحالة عبارة " لهم مياه تجري في أسواقهم ودورهم ومساجدهم ".
ـ الحمامات: وبناء الحمامات من السمات الحضارية التي اتسمت بها بلاد الشام وقتئذ، فقلما خلا حيّ من أحياء مدنها من حمام أو أكثر، وكان بدمشق وحدها قرابة مائة ، وكان الحمام في هذه الفترة يشتمل على مدخل صغير يؤدي إلى ممر منكسر ينتهي إلى المشلح الذي يشتمل على مواضع لخلع الملابس وحفظها، وبه يجلس معلم الحمام الذي يأخذ الأجور، ويشرف على العمل بالحمام، ويتصل المشلح بالحجرة الأولى من الحمام، وهي التي تسمى الحجرة الباردة أو بيت أول، وهي مزودة بأحواض الماء والهواء الساخن المار عبر أنابيب فخارية بحوائط القاعة آتية من جهة المستوقد، وتتصل هذه الحجرة بحجرة ثالثة هي بيت الحرارة أو الحجرة الساخنة، وهي مزودة بمغطس يبلغ فيه الماء الساخن أقصى درجة حرارة يتحملها الجسم. وأرضيات الحجرات مفروشة بالرخام ليسهل تنظيفها، كما أن حجراته معقودة سقفها بقباب بها فتحات تغشيها قطع الزجاج التي تسمح بمرور الضوء دون الهواء فتوفر الإضاءة الطبيعية من خلالها دون السماح بمرور الهواء، وغالبًا ما يستخدم في بناء الحمامات الآجر والحجر والرخام، وهي مواد تتحمل الماء، فيتناسب التخطيط مع مواد البناء في أداء وظيفة الحمام التي تعتمد على الماء ..
وكان مزودًا أيضًا بدورات الخلاء المفروشة بالقار في داخل كل خلوة حوض من الرخام فيه أنبوبان، أحدهما يجري بالماء البارد والآخر بالماء الحار، وفي زاوية كل خلوة أيضًا حوض للاغتسال فيه أيضًا أنبوبان يجريان بالحار والبارد.
ـ النافورات، وهي من فنون العمارة التي راجت بالشام وقتها ،وكانت تزين بها الميادين العامة والشوارع الواسعة وصحون المساجد، وكانت تبنى من الرخام وترصف بالفسيساء وصنابيرها من النحاس ، وقد أخذت أشكالا عدة ، فبعضها كان عبارة عن أنبوب كبير يضخ الماء بقوة، فيرتفع إلى الهواء، وحوله أنابيب صغار ترمي الماء إلى علو، ويخرج منها كقضبان اللجين ،وكأنها أغصان تلك الدوحة المائية، ومنظرها أعجب وأبدع من أن يلحقه الوصف.
هذا وقد ساعد على هذا الازدهار المعماري الذي رأيناه مهارة المهندسين والبنائين في ذلكم الوقت ، فالمقدسي يذكر أن ابن طولون أراد أن يحصن ميناء عكا فعرض الأمر على الصناع فدُلَّ على جده( أبو بكر البناء ) فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس حتى أنهضه إليه, فلما صار إليه وذكر له ذلك قال:" هذا أمر هين، عليَّ بفلق الجُميز الغليظة، فصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري وخيّط بعضها ببعض، وجعل لها بابًا من الغرب عظيمًا، ثم بنى عليها بالحجارة و… جعل كلما بنى خمس دواس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، وجعلت الفلق كلمَّا ثقلت نزلت، حتى إذا علم أنها قد جلست على الرمل تركها حولاً كاملاً حتى أخذت قرارها، ثم عاد فبنى من حيث ترك، كلما بلغ البناء الحائط القديم داخله فيه وخيطه به ثم جعل على الباب قنطرة" ..
هذه بعض صور لحضارتنا الإسلامية القديمة أردت من ذكرها أن يقارن الشباب بين عالمهم الآن وعالم أجدادهم الذين صعدوا إلى قمة الاتقاء في وقت كان غيرهم يغط في نعاسه ويتجادل في أمور لا تسمن ولا تغني من جوع أو يسير جيوشه الجرارة لتهدم ما يشيده المسلمون إن رأوا من أمرائهم تقاعسا ومن جنودهم تكاسلا ..