هو ابو سليمان أيوب بن زيد من بني تيم الله بن النمر بن قاسط ، والمعروف بابن القرّة الهلالي . والقريّةُ جدته ، واسمها خماعة بنت جشم ابن ربيعة من بني الخزرج بن النمر بن قاسط . والقريّة لا تزال تحمل أسم أيوب وجدته خماعة الى اليوم ، وهي تقع بالقرب من مينا العقير على طريق سلوى الساحل قريباً من الاحساء . وكانت هذه مناطق سكنى النمر بن قاسط بأقليم البحرين مع عبد القيس في زمن دولة بني العياش وبني العريان العبديين ، حتى قضوا عليهم القرامطة في عام 386هـ ولم يقم للنمر قائمة بعدها ومن بقي منهم تفرق بين القبائل انظر بن حزم الظاهري الجمهرة ، نسب النمر بن قاسط ، اقول انا ومنهم بقية في احد بطون عنزة اليوم .
نعود الى بن القريّة : كان ابن القريّة أعرابياً أمياً ، وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة ، وكان قد أصابته السّنة ، فقدم عين التمر وعليها عامل للحجاج ابن يوسف الثقفي ، وكان العامل يغدّي كل يوم ويعشّي ، فوقف ابن القريّة ببابه فرأى الناس يدخلون فقال : أين يدخل هؤلاء ؟ فقالوا : إلى طعام الأمير ، فدخل فتغدى وقال : أكل يوم يصنع الأمير ما أرى؟ فقيل : نعم ، فكان يأتي كل يوم بابه للغداء والعشاء ، إلى أن ورد كتاب من الحجاج على العامل ، وهو عربي غريب لا يدري ما هو ، فأخر لذلك طعامه ، فجاء ابن القريّة فلم ير العامل يتغدى ، فقال : ما بال الأمير اليوم لا يأكل ولا يطعم؟ فقالوا : اغتم لكتاب ورد عليه من الحجاج عربي غريب لا يدري ما هو ، قال : ليقرئني الأمير الكتاب وأنا أفسّره إن شاء الله تعالى ، وكان خطيباً لسناً بليغاً ، فذكر ذلك للوالي فدعا به فلما قرىء عليه الكتاب عرف الكلام وفسّره للوالي حتى عرّفه جميع ما فيه فقال له : أفتقدر على جوابه؟ قال : لست أقرأ ولا أكتب ولكن أقعد عند كاتب يكتب ما أمليه ، ففعل ، فكتب جواب الكتاب ، فلما قرىء الكتاب على الحجاج رأى كلاماً عربياً غريباً ، فعلم أنه ليس من كتّاب الخراج ، فدعا برسائل عامل عين التمر فنظر فيها فإذا هي ليست ككتاب ابن القريّة ، فكتب الحجاج إلى العامل ((أما بعد ، فقد أتاني كتابك بعيداً من جوابك بمنطق غيرك ، فإذا نظرت في كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تبعث إلىّ بالرجل الذي صدّر هذا الكتاب ، والسلام)) . قال : فقرأ العامل الكتاب على ابن القريّة وقال له : تتوجه نحوه؟ فقال : أقلني ، قال : لا بأس عليك ، وأمر له بكسوة ونفقة وحمله إلى الحجاج .
فلما دخل عليه قال : ما أسمك؟ قال : أيوب ، قال : اسم نبي وأظنك أميّاً تحاول البلاغة ولا يستصعب عليك المقال ، وأمر له بنزل ومنزل ، فلم يزداد به الا عجباً حتى أوفده على عبد الملك بم مروان ، فلما خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الطاعة بسجستان وهي واقعة مشهورة بعثه الحجاج إليه رسولاً ، فلما دخل عليه قال له : لتقومنّ خطيباً ولتخلعنّ عبد الملك ولتسبّن الحجاج او لأضربنّ عنقك ، قال : أيها الأمير إنما أنا رسول ، قال : هو ما أقول لك ، فقام وخطب وخلع عبد الملك وشتم الحجاج ، وأقام هنالك .
فلما انصرف ابن الاشعث مهزوماً كتب الحجاج الى عماله بالري وأصبهان وما يليهما يامرهم أن لا يمر بهم أحد من فلّ ابن الاشعث إلا بعثوا به أسيراً إليه ، وأخذ ابن القرية فيمن اخذ ، فلما أدخل على الحجاج قال : أخبرني عما أسألك عنه ، قال : سلني عما شئت ، قال : أخبرني عن أهل العراق ، قال : أعلم الناس بحق وباطل ، قال : فأهل الحجاز ، قال : أسرع الناس في فتنة واعجزهم فيها ، قال : فأهل الشام ، قال : أطوع الناس لخلفائهم ، قال : فأهل مصر : قال : عبيد من غلب ، قال : فاهل البحرين ، قال : نبيط أستعربوا ، قال : فأهل عمان ، قال : عرباً استنبطوا ، قال : فأهل الموصل ، أشجع فرسان وأقتل للأقران ، قال : فأهل اليمن ، قال : أهل سمع وطاعة ، ولزوم للجماعة ، قال : فأهل اليمامة ، قال : أهل جفاء واختلاف أهواء وأصبر عند اللقاء ، قال : فأهل فارس ، قال : أهل باس شديد ، وشر عتيد ، وريف كثير ، وقرّى يسير ، (يقصد بخلاء بالاطعام) واقراء الضيف ، قال : اخبرني عن العرب ، قال : سلني ، قال : قريش، قال : أعظمها أحلاماً ، وأكرمها مقاماً ، قال : فبني عامر بن صعصعة : قال : أطولها رماحاً ، وأكرمها صباحاً ، قال : فبني سليم ، قال : اعظمها مجالس ، وأكرمها محابس ، قال : فثقيف ، قال : أكرمها جدوداً وأكثرها وفوداً ، قال : فبني زبيد ، قال : ألزمها للرايات ، وادركها للترات ، قال : فقضاعة ، قال : أعظمها أخطاراً وأكرمها نجاراً ، وأبعدها آثاراً قال : فالأنصار ، قال : أثبتها مقاماً ، وأحسنها إسلاماً ، وأكرمها أياماً ، قال : فتميم ، قال : أظهرها جلداً ، وأثراها عدداً ، قال : فبكر بن وائل ، قال : أثبتها صفوفاً ، وأحدها سيوفاً ، قال : فعبد القيس ، قال : أسبقها الى الغايات ، وأضربها تحت الرايات ، قال : فبنو أسد ، قال : أهل عدد وجلد ، وعسر ونكد ، قال : فلخم ، قال : ملوك ، وفيهم نوك ، قال : فجذام ، قال : يوقدون الحرب ويسعرونها ويلقحونها ثم يمرونها ، قال : فبنو الحارث ، قال : رعاة للقديم ، وحماة عن الحريم ، قال : فعك ، قال : ليوث جاهده في قلوب فاسده ، قال : فتغلب ، قال : يصدقون اذا لقوا ضرباً ، ويسعرون للاعداء حرباً ، قال : فغسان ن قال : أكرم العرب أحساباً وأثبتها أنساباً ، قال : فاي العرب في الجاهلية أمنع ان تضام ؟ قال : قريش كانوا أهل رهوة لا يستطاع ارتقاؤها ، وهضبة لا يرام انتزاؤها ، في بلدة حمى الله ذمارها ، ومنع جارها ، قال : فأخبرني عن مآثر العرب في الجاهلية ، قال : كانت العرب تقول حمّير أرباب الملك ، وكندة لباب الملوك ، ومذحج اهل الطعان ، وهمدان أحلاس الخيل ، والأزد آساد الناس ، قال : فأخبرني عن الأرضين ، قال : سلني ، قال : الهند ، قال : بحرها درّ ، وجبلها ياقوت ، وشجرها عود ، وورقها عطر وأهلها طغام كقطع الحمام ، قال : فخرسان ، قال : ماؤها جامد ، وعدوها جاحد ، قال : فعمان ، قال : حرّها شديد وصيدها عتيد ، قال : فالبحرين ، قال : كناسة بين المصرين ، قال : فاليمن ، قال : أصل العرب وأهل البويتات والحسب ، (أقول انا كاتب الموضوع لا يفهم من هذه العبارة الشهيرة ان اصل العرب من اليمن يعني من قحطان والباقي ليس عرباً ،أبداً البته ، فالمقصود ان أصل جميعاً وهم العرب ابناء أسماعيل قحطان ، وعدنان كانو في تهامة اليمن وتكاثروا وتمددوا وانساحوا خارج اليمن أي السراة وما حولها ، والا كيف نصع بالنبي الكريم ونسبه ان لم يكن هو اصل العرب ، وأجمع اهل العلم والمحققين ان من كان على وجه الارض حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من ابناء اسماعيل بن ابراهيم الخليل عليهما السلام عدنانيهم وقحطانيهم ، والا كيف نفسر كلام عمر بن الخطاب حين يقول للمهاجرين والانصار تمعددوا عليكم بالمعديّة أي ابوكم معد ابن عدنان ، فإن كان قحطان ليسو من المعدية فإين يذهب كلام عمر ، ثم لم ينكر عليه الانصار ذلك فلينتبه القاريء الكريم) ، نعود لابن القرية والحجاج بن يوسف ، قال فمكة ، قال : رجالها علماء جفاة ، ونسائها كساة عراه ، قال : فالمدينة : رسخ العلم فيها وظهر منها ، قال : فالبصرة ، قال : شتائها جليد ، وحرّها شديد ، وماؤها ملح ، وحربها صلح، قال : فالكوفة : قال : ارتفعت عن حر البحر ، وسفلت عن برد الشام ، فطاب ليلها وكثر خيرها ، قال : فواسط : قال : جنة بين حماة وكنّة ،قال : وما حماتها وكنّتها؟ ، قال : البصرة والكوفة تحسدانها ، وما ضرها ودجلة والزاب يتجاريان بإفاضة الخير عليها ، قال : فالشام ، قال : عروس بين نسوة حلوس ، قال : ثكلتك أمك يا ابن القريّة! لولا أتباعك لأهل العراق وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم فتأخذ من نفاقهم ، ثم دعا بالسيف وأوما الى السياف أن أمسك ، فقال ابن القرية : ثلاث كلمات أصلح الله الامير ركبٌ وقوف يكنّ مثلاً بعدي ، قال : هات ، قال : لكل جواد كبوة ، ولكل صارم نبوة ، ولكل حليم هفوة ، قال الحجاج : ليس هذا وقت المزاح ، يا غلام اوجب جرحه ، فضرب عنقه .
وقيل : انه لما أراد قتله قال له : العرب تزعم ان لكل شيء آفة ، قال : صدقت العرب ، أصلح الله الامير! قال : فما آفة الحلم؟ قال ك الغضب ، قال : فما آفة العقل ؟ قال : العجب ، قال : فما آفة العلم؟ قال : النسيان ، قال : فما آفة السخاء؟ قال : المنُّ عند البلاء ، قال : فما آفة الكرام؟ قال : مجاورة اللئام ، قال : فما آفة الشجاعة؟ قال : البغي ، قال : فما آفة العبادة؟ ، قال : الفترة ، قال : فما آفة الذهن ، قال : حديث النفس ، قال : فما آفة الحديث؟ قال : الكذب ، قال : فما آفة المال؟ قال : سوء التدبير ، قال : فما آفة الكامل من الرجال؟ قال : العدم ، قال : فما آفة الحجاج ابن يوسف؟ قال : أصلح الله الأمير ، لا آفة لمن كرم حسبُهُ ، وزكا فرعه ، قال : أمتلأت شقاقاً ، وأظهرت نفاقاً ، اضربوا عنقه .
وسأله بعض العلماء عن حد الدهاء فقال : هو تجرّع الغصة وتوقع الفرصة .
ومن كلامه في صفة العيّ : التنحنح من غير داء ، والتثاوب من غير ريبة ، والإكباب في الارض من غير علة .
وكان قتله في سنة أربع وثمانين للهجرة ، رحمه الله .
وهذا ابن القريّة هو الذي تذكر النحاة في أمثالها فيقولون ((ابن القريّة زمان الحجاج)) .
من كتاب وفيات الاعيان وانباء أبناء الزمان 1 - ص135 .