البطالمة الأواخر يحاولون كسب ود الكهنة
ولا يبعد أن تضييق الخناق على الكهنة كان من العوامل الهامة في اندلاع لهيب الثورة في عهد البطالمة الأواخر، مما حدا بهم إلى محاولة اكتساب ود الكهنة. لكنه بالرغم من رغبة البطالمة في قطع دابر الثورة وإرضاء الكهنة، فإنهم لم يرجعوا دخل المعابد إلى ما كان عليه قبل عهدهم، بل حاولوا اكتساب رضاء الكهنة بشتى الوسائل .
وقرار منف، الذي صدر بمناسبة تتويج بطليموس الخامس وحفظه حجر رشيد، يرينا أن دخل المعابد كان يتألف من دخل الأراضي المقدسة، ومنح النقود والقمح التي كان التاج يعطيها سنويًا للكهنة، ويذكر هذا القرار بعبارات غامضة، يحتمل أنها مقصودة، أن هذا الملك أبقى نصيب الآلهة من الكروم والحدائق والأراضي الأخرى كما كانت في عهد أبيه ، وأنه أمر بألا يدفع الكهنة عند رسامتهم ضريبة أكثر مما كانوا يدفعونه في عهد أبيه، وأنه أعفى الكهنة من رحلتهم السنوية إلى الإسكندرية، وأنه أنقص إلى الثلث الضريبة التي كان التاج يجيبها من المعابد على المنسوجات الكتانية، وأنه أنزل للمعابد عما كانت تدين به للتاج حتى العام الثامن من حكمه، وكان مقدارًا كبيرًا من القمح والمال، وأنه نزل لها كذلك عن الغرامات التي فرضت عليها بسبب عدم تسليم المقدار المطلوب منها من المنسوجات الكتانية، كما نزل أيضًا عن تكاليف فحص ما سلم من المنسوجات في خلال هذه المدة عينها، وأعفى المعابد من الضريبة المفروضة، على أراضيها، وقيمتها أردب عن كل أرورة مزروعة قمحًا وكراميون (keramion) من النبيذ عن كل أرورة مزروعة كروما.
ويتبين من أمر ملكي أصدره بطليموس الثامن في عام 140/129 شيئان: أحدهما: أن هذا الملك كان قد سبق أن أصدر أمرًا يحظر الانتقاص من مختلف أنواع دخل المعابد أو الاعتداء على من عينهم الكهنة لجمع هذا الدخل، والآخر، أن المعابد استردت منذ حوالي منتصف القرن الثاني حق إدارة مواردها المختلفة، بما في ذلك أراضيها بطبيعة الحالن ويرينا القرار الذي أصدره بطليموس الثامن يورجتيس الثاني في عام 118 ق.م. أن الدولة تعترف بدخل المعابد وتأمر بعدم انتقاص شيء منه، وتبيح للمعابد الاستمرار في القيام بإدارة الأراضي التي تديرها دون تدخل أحد في شئونها، وتعفي المعابد من الضرائب المتأخرة عليها. وهكذا يبدو أن الكهنة استعادوا حق إدارة أراضي المعابد، على الأقل رسميًا، ذلك أن تكرار صدور الأوامر الملكية الخاصة بذلك ينهض دليلاً على ميل الموظفين إلى تجاهلها، وعندما تقدم كهنة إيزيس في فيلة بشكواهم إلى هذا الملك من أن موظفي الدولة أو القواد الذين يزورون فيلة أو يمرون بها كانوا يحملونهم عبئًا ثقيلاً من جراء استقبالهم، أصدر الملك في عام 118 – 117 ق. م. قرارًا يأمر قائد تلك المديرية بإعفاء هؤلاء الكهنة في المستقبل من هذه الالتزامات.
ويبدو أن البطالمة المتأخرين لجأوا إلى وسيلة أخرى لاكتساب ود الكهنة، وهي القيام برسامتهم، فإن بتوباست (Petubast)، أحد أفراد أسرة كهنوتية تولى أفرادها منصب الكاهن الأكبر للإله فتاح في منف طوال عصر البطالمة، يفخر بأن بطليموس العاشر إسكندر الأول قام برسامته، فيحدثنا أحد النقوش بأن "الملك بطليموس الذي يدعى الإسكندر، وهو الإله المحب لأمه، قضي بأن يدخل بتوباست بيت الله. وقد شرب أمام الملك، وأعطاه الملك، الذهبي، ورباط الرأس والرداء الجلدي باعتباره كاهن فتاح في .. الحفل، ووضع على رأسه الحلية الذهبية، كما حدث لآبائه، وذلك في العام العاشر، وبقى كاهنًا حتى العام الثامن والعشرين من حكمه".
ويتضح مما مر بنا أنه إذا كان قبضة البطالمة الأوائل شديدة الوطأة على الكهنة، فإن البطالمة الأواخر اضطروا إلى تحرير الكهنة تدريجيًا من القيود التي فرضها عليهم البطالمة الأوائل، حتى ليبدو أنه لم يبق من تلك القيود إلا خضوع كل معبد لمراقب، واستيلاء الحكومة على دخل ضريبة الأبومويرا، واحتفاظها بحق بيع المناصب الدينية الهامة للذين يتولونها، ومع ذلك يبدو من تجديد المنح للكهنة في عهود مختلفة بل في العهد الواحد نفسه أن الكهنة لم يفلحوا في استرداد كل ولا جل حقوقهم وامتيازاتهم السابقة، إذ أنه عندما ضعفت السلطة المركزية وفسدت الأداة الحكومية، كثيرًا وعجزت السلطة المركزية عن حمل الموظفين على تنفيذ قراراتها، ولذلك كثيرًا ما أضحت تلك القرارات قصاصات ورق لا قيمة لها، على نحو ما سنرى فيما بعد.
وما كان موقف الكهنة إزاء سياسة البطالمة نحوهم؛ يبين لنا أنهم تقسموا شيعًا وأحزابًا وعجزوا عن تكوين جبهة واحدة، ذلك أنه على حين كانت العلاقات متوترة بين البطالمة وكهنة آمون في طيبة، الذين ناصبوا حكام البلاد الأجانب وخاصة المتأخرين منهم عداء شديدًا، حتى غدت طيبة أشد معاقل الثوار خطورة على البطالمة مما حدا ببطليموس التاسع إلى تخريبها، يبدو أن العلاقات كانت حسنة بين البطالمة ومنافسي كهنة آمون، إذ نسمع أن الثوار كانوا يعتدون عليهم وعلى معابدهم، على نحو ما سنرى عند الكلام عن الثورات القومية، ولا شك في أن الثوار لم يعتدوا على أولئك الكهنة ومعابدهم كما اعتدوا على الإغريق وممتلكاتهم، إلا لأنهم رأوا أولئك الكهنة يحالفون الأجانب أو على الأقل يتخلفون عن موكب الوطنية، ويدل كل ذلك على أن البطالمة، شأنهم شأن كل دخيل مغتصب، استغلوا الخلافات الداخلية لصالحهم، وأنه كان لهذه الخلافات أثر كبير في تفكك وحدة الكهنة وتباين موقفهم من البطالمة. وإذا كان ذلك هو حال رجال الدين المصريين، زعماء البلاد الروحيين، الذين كانت تتمثل فيهم التقاليد القديمة وكل ما يذكر المصريين بمجدهم التالد وعزهم الغابر، فلا عجب أن فت ذلك في عضد الثوار وباءت حركاتهم القومية بالإخفاق.